أُراهن

23 يناير 2024
مظاهرة في غرناطة تنديداً بحرب الإبادة الإسرائيلية، 20 كانون الثاني/ يناير 2024 (Getty)
+ الخط -

أُراهن على أنّنا شعب لديه إرث وخبرات، تسنده على مَرّ الأيام. أُراهن، وقلبي ينفطر بما يرى، على تفاؤل الإرادة الفلسطينية أمام تشاؤم العقل البراغماتي العالمي (حتى لا نقول كلمة أُخرى). أُراهن والله، أنه قد ينتهي الأمر بالأشخاص الذين يواجهون صعوبات بالغة، إلى اكتشاف الامتنان الذي يقودهم لاستعادة الثقة في الحياة: أنّ هول الصدمة يمكن أن يكشف عن معدننا وقوّة شخصيتنا.

لدينا إرث قرن من المُقاساة وجفاف الريق. ومن لديهم هذا الكنز، لن تكسرهم الريح مهما عصفت.

أقول قولي هذا وأُذكّر من يزعم أن يدي الآن في الماء، أنّها كانت في النار 52 سنة بلا إجازات.

أقوله ولي في القطاع الحبيب بناتٌ وأخوات وإخوة وأحفاد، وعشرات العوائل أنا خالها أو عمّها أو قريبها اللزم.

أقوله وشعبي بؤبؤ العينين، ومناط القلب، بعيداً عن بلاغة اللغة في المنفى.

أقوله وأعرف أنّ النار تكشف جوهر المعدن. وأنّ عبقرية مجاهدينا الآن، سيكون لها المستقبل، وسوف تكنس في طريقها كلّ من باعوا البلاد، تحت مليون حجة وحجة.

ذلك أن سنن الله لا تتغيّر، ولن يبقى في الوادي غير صخور الوادي.

تلك من سنن الله وسنن التاريخ وسنن الطبيعة.


■ ■ ■


سيأتي يوم، إن استمرّ النظام الرأسمالي الفاحش، ويُخبرنا شاعر أو عالم أنثروبولوجيا، بالحقيقة المدويّة: إن الحفاظ على الأنواع (ومنها النوع البشري)، يعتمد على العمل الخيري!

وإنّ هذا النظام، وفق ما تقول عالمة أنثروبولوجيا طبّية، يخلق حواجز أمام التغيير العميق في رعاية الولادة، ناهيك عمّا قاله المدير التنفيذي للصندوق العالمي: هناك تآكل مثير للقلق في الالتزام بحقوق الإنسان.

أمس أيضاً قرأت أنّ أمام البشرية عقداً زمنيّاً فقط، لترى أوّل ترليونير!

وعلى هامش هذا الخبر، أو قريباً منه، قرأت أنّ لا أحد يعرف شيئاً عن مجمع المخابئ الضخم الذي يبنيه زوكربيرغ في هاواي.

بالمناسبة، المذكور يدفع مبالغ ضخمة لمؤسّسات في أميركا، تُرسّخ مفهوم الإبادة الجاري حالياً في بلادنا، وقد تبرّع قبل أيام بنصف مليار دولار لإحدى الجامعات (هارفارد)، كي تطرد بعض أساتذتها من المؤيّدين للحقّ. 

إلى هنا وصل الغرب. حتى إنّ الرفيق الخفيف بيدرو سانشيز يهاجم الخطاب النيوليبرالي في دافوس، ويطالب الشركات بالمساعدة في الدفاع عن الديمقراطية!

وأنا أقول له ما قاله الأجداد الحكماء: يا طالب الدبس من (...) النمس!

مرّةً ثانية، إلى هنا وصل الغرب.

وها بعض مفكّريه الكبار يزعمون الآن أنّ الوقت قد حان لكي يتولّى أغنى 10 بالمئة من سكّان العالم مسؤوليتهم المناخية.

المناخية فقط، يا طالبين الدبس من غير مأتاه؟

أمّا صديقنا غوتيريس، فيُحذّر من فقدان الثقة في السياسة والنظام الاقتصادي ومخاطر تحوُّل عالمنا إلى الفوضى.

فقط ما كان ينقص تحذيره هو تحديد المخرّب، وهو هنا أميركا بطغمتها وطغاتها ولوبيّها الماليّ.


■ ■ ■


عدوُّنا لا يعرف كيف يعضّ لسانه، وهذا من حسن حظّنا طبعاً. إنّ اللعب على المكشوف مع أباطرة التضليل هو أمر لمصلحتنا، مهما يكن بشعاً.

يريدون مسحنا عن الوجود؟ إن استطاعوا فليفعلوا، ولن يستطيع أحدٌ منهم.

نحن لهم بالمرصاد. لحمنا ورصاصهم والزمن طويل.

قالت لي أختي الناجية الوحيدة من القصف في مربّع سكنها بمخيّم المغازي (تقيم الآن في عربة مركونة بحي السلطان في رفح) ما يقوله جميع الناس: إنّ أفظع شيء هو أكل الموتى. تعني تركهم تحت الأنقاض حتى تتحلّل الجثامين تماماً، ومنع أحد من الوصول إليها، لإكرامها بالدفن، حتى يتحوّل أحبابنا إلى مكرهة صحّية.

كلّا يا أخت: الأفظع من هذا هو من يجعل الناس موتى في غير أوانهم.

هو من أعدم العشرات وبتر أطراف العشرات في مربّع سكنك.

ثم إنّ الصهاينة آكلو جثث مشهود لهم، في هذا الجانب، مثلما هو مشهود لهم في جمع المال والهيمنة على الإعلام الغربي. وعلينا ألّا نسمح لهم بجعلنا موتى، ليأكلوا جثاميننا. هُم الآن يسرقون الأعضاء منها، لكنّنا نأمل بغدٍ لا يتيح لهم أكل الجثث ولو على مراحل ودرجات.

أقول قولي هذا، بمناسبة مسح مقبرة العائلة الكبيرة، وسرقة جثامين حديثة منها، ناهيك عن نشر الهياكل العظمية القديمة على سطح الأرض، ثمّ تجميعها ودفنها في حفرة عميقة، ومنها هياكل أمّي منيرة وأختي فائزة ولا أقلّ من مئتي هيكل عظمي لأقرباء لَزَم وعابري سبيل، كانوا توكّلوا على الله وارتاحوا، قبل أن يتعذّبوا مجدّداً بما نعيش ونقاسي، فيكفي بعضهم ما رأوه في النكبة الأُولى.

آخر الأخبار أنّ دباباتهم تجشم منذ أسبوع على رمل المقبرة الطريّ، وقد تحوّلت جميع القبور إلى ذكرى مدفونة لا نعلم مكانها، وأنّهم من هناك يقصفون بيوت المخيّم وعمارات وسط البلد.

لك عنفوان المقاومين يا خانيونس. لكم الله يا شهداءنا الجدد. لكم الله يا موتانا القدامى.

لك الله يا أمّي، ولي أيضاً، فلَشدّ ما حلمت بالعودة إلى المخيّم، وأنّ أوّل شيء سأفعله، قبل الوصول إلى البيت، هو المرور على قبرك والجلوس معك لفترة، كنت أنوي أن تطول، بعد أن مضت علينا 13 سنة ونيف، لم نتكلّم مع بعض.


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون