أَدّي شير... في الصِّلات المبكّرة بين العربية والفارسية

03 مارس 2022
أَدّي شير في بورتريه لأنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

تَزلُّ الأقدامُ في تلكَ الأرض التي سار عليها الرّاهب العراقيّ أدّي شير (1867 ــ 1915). ولا يمكن قطعُ أيّة مسافةٍ إلّا بعد التمحيص الشديد. فالمَجال الذي خاض فيه هو اقتراض اللغة العربيّة، في عهودها الأولى، من الفارسيّة، وما نشأ عن ذلك من تحويرات صوتيّة وحرفيّة ودلاليّة طاولت بنية الألفاظ المقترضة. فبعد أنْ أتقنَ رجلُ الدين العراقي أكثرَ من عشر لغات قديمة وحديثة، مثل السريانيّة والفارسيّة والألمانيّة والرّوسيّة والفرنسيّة... توجّه إلى دراسة الألفاظ الفارسيّة التي اقترضتها الضّاد، سَواء قبل نزول القرآن أو إبّانَ مَرحلة دخول الإسلام إلى أرض فارس خلال الحكم العبّاسي.

فقد جمع الكلمات التي اعتبرها مُعرَّبَة عن اللغة الفهلويّة ورتّبَها حَسب النّسق الألفبائي واصفاً، في إيجازٍ ودقّة، أهمّ التحويرات التي طرأت عليها ضمن نظام اللغة العربيّة، ومذكّراً بمقابلاتها الأخرى في لُغاتٍ أُخرى من لغات المنطقة، كالسّريانيّة والعبريّة والكرديّة

وقد مَهّد لعمله المعجميّ، "كتاب الألفاظ الفارسية المعرَّبة"، بمقدّمة قصيرة ذكّر فيها أوّلًا بمشروعية مثل هذه الأبْحاث التأثيليّة، حيث اعتمد على السلطة الرمزيّة لجلال الدين السيوطي (1445 ــ 1505)، في كتابه "المزهر"، حيث أثبت أخْذَ العَرب القدامى عن الفُرس وَالأنباط وَالسّريان وغيرهم من الأمم المصاقبة لهم. ثمّ وصف بإيجاز طرق تعامل اللغة العربيّة مع الكلمات المقترضة وما تُجريه عليها من تغييراتٍ صوتيّة وصَرفيّة، مثل قلب الهاء الواقعة في آخر الكلمة إلى جيم، في "برنامه" التي تُصبح "برنامج". وخُتم هذا المُعجم، الذي يتضمّن أكثر من 270 صفحة، بفهارسَ للكلمات الأجنبيّة المذكورة طيَّ الكتاب، وهو ما يضفي عليه مسحةً علميّة ويبرز نَزعته المقارِنة والوصفيّة. 

أفاد في عمله من إتقانه أكثر من عشر لغات شرقية وغربية

وقد اعتمد أدّي شير في عَددٍ من آرائه القاضية بعُجمَة الكلمات، أي وجود أصلٍ أجنبيّ لها، على "القاموس المحيط" للفيروز آبادي (1329 ــ 1415)، الذي غالباً ما كان يُشير إلى ما إذا كانت الكلمة من أصل أجنبي أو لا. كذلك كان يستند إلى مُعاصِرِه لويس شيخو (1859 ــ 1927)، صاحب "أقرب الموارد". واعتمد، أيضاً، على قاموس فارسي بعُنوان "البرهان القاطع" لحُسين بن خلف التبريزي (ت. 1651)، الذي تُرجم إلى التركيّة، بعد أن أضيفت إليه عشرات الموادّ المقتبسة من كتب الأدب والمَعاجم القديمة، ما يجعل من هذا القاموس أشمل مُعجم أُلّف إلى عصرهِ وربّما إلى أيّامنا هذهِ عن الاقتراض الذي أجرته العربيّة. وعلاوة على ذلك كله، توكّأ هذا الباحث على تضلّعهِ من اللسان الفارسيّ، نظراً إلى عَمله أسقفاً لسنواتٍ طويلة، في منطقة زعيتر، فضلاً عن إتقانه الكرديّة والكلدانية.

ورغم إقرار أدّي شير بأنّ "البحثَ في تحقيق أصل الألفاظ المعرّبة من أصعب وأدقّ المباحث اللغويّة"، فإنّه كان يَجزم، في الكثير من الحالات، بفارسيّة بعض الكلمات، رغم أنها عربية محضة، ولا أثرَ للاقتراض عليها مثل كلمات: جفن، عطش، غبراء، وغيرها كثير. ومن جهة ثانية، فإنّ الكثرة الكثيرة من هذه الكلمات المُعرّبة قد خرجت نهائيّاً عن الاستعمال، وصارت من المهجور المتقادِم، وحتى في زَمن تَداولِها قديماً، كانت خاصّة بدوائر العلماء في حقول الطبّ وَالنباتات وغيرها من الحقول الدقيقة، وليست ممّا يتداوله الناس في مخاطباتهم اليوميّة ومحاوراتهم الاعتيادية. 

غلاف

ثمّ ما الذي يمنع أنْ يكون الفرسُ، وغيرُهم من الأمم التي جاورت العرب كالعِبريّين والسّريان، هي التي أخذت عنهم هذهِ الألفاظ وليس العكس؟ وبعبارة أخرى، هل يمكن القطع بأصْل تاريخيّ جازم لها، في ظلّ التّفاعُل المُستمرّ الذي جرى بين ثقافات الشرق الأوسط القديم وتجّاره ولغاته؟ أسئلة يصعب الحسم فيها.

إلّا أنّ علماء المسلمين، منذ الشافعي (767 ــ 820) والجواليقي من بعده (1073 ــ 1144)، في كتابه "المُعرّب"، أقرّا بإمكانَ اقتراض القرآن من غير العربية من اللغات، إذ الاقتراض ظاهرة عامّة تشترك فيها كلّ الألسن البشريّة. ولكنّ المؤسفَ أنّ دارسي النصّ القرآني اليوم، سواء في مَدرسة "قرآن المؤرّخين" بفرنسا، أو في أعمال الباحثة جاكلين الشابي، يستغلّون هذه الظاهرة من أجل الترويج لمقولة أنّ القرآن حُرّر بعد بضعة عقود من التاريخ المتعارف عليه، وأنّ مجموعة من علماء السريان واليهود نهضت بصياغته، ودمجت فيه عقائدها ومُفرداتها.

جزم بفارسيّة عددٍ من الكلمات رغم أنها عربية محضة

ولذلك تَجدر، بل تتأكّد إعادة طبع هذا الكتاب، مع مراجعة نقدية لكلّ الموادّ الواردة فيه، ولا سيّما أنه مَصدرٌ من مصادر "معجم الدوحة التاريخي" وأحد مواردِهِ، وذلك بغرض التحقّق من كلّ واحدة منها، وذلك لتكون الاستفادة منه على أسس متينة، ولا بأس أيضاً من مقارنة مداخله بتلك التي جَمعها المستشرق الأسترالي أرثور جفري (1892 ــ 1959)، في كتابه "الألفاظ الأعجميّة في القرآن" (1938)، الذي أعيدت طباعته سنة 2014 بعد مراجعة محتوياته. والغرض من مقترحنا  تنشيطُ الدراسات التأثيلية على أُسُسٍ جديدة تُراعي ما حصل من التطوّرات المعرفيّة منذ أكثر من قرنٍ، وما أكثرها.

وُلد أدّي شير في مدينة شقلاوة بالعراق، في عائلة كلدانية. انضمّ إلى مدرسة الآباء الدومينيكان، بالموصل، سنة 1880، حيث درس السريانيّة والعربيّة وبعض اللغات الأوروبيّة، إلى جانب موادّ اللاهوت والفلسفة. وما لبث أن ارتقى إلى رتبة كاهن، ثم عُيّن مساعداً لأسقف كَركوك، وبعدها انتُخبَ أسقفًا لبَلدة سَعرد. وفي سنة 1908، سافر إلى إسطنبول حيث التقى السلطان العثماني، ومنها سافر إلى روما  في زيارة للبابا بيوس العاشر، ثم إلى باريس حيث كانت له اتّصالات مع مستشرقين فرنسيين وحيث طبعَ بعض أعماله التي كتبها بالفرنسية. قُتل في أحداث 1915، مُخلفاً آثاراً كبيرة مثل "تاريخ كلدو وآثور"، و"سيرة أشهر شهداء المشرق القدّيسين"، وكلاهما بالعربية، و"أطوار من تاريخ كردستان"، بالفرنسيّة.  


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون