بستان
لعلّي لم أجرؤ على كتابتكِ،
أيّتها اللغةُ المستعارة،
سوى لاستعمال هذا الاسم القُرَويّ
الذي طالما وقْعُه المتفرّدُ عذّبني: بستان.
شاعرٌ فقيرٌ مُجبَرٌ على انتقاء
كلّ ما يقولُه هذا الاسم،
مِن المُماثلِ الغامض الذي يترنّح،
إلى ما هو أسوأ: السياج الحارِس.
بستان: يا مهارة القيثارة
في قدرتها على قولِكَ ببساطة،
يا اسماً متفرّداً يجذبُ إليه النحلَ،
يا اسماً يتنفّس وينتظر...
يا اسماً مضيئاً يخبّئ الربيعَ القديم،
الربيعَ المليءَ والشفّاف،
يا اسماً، في حروفِه المتناسقة،
يُضاعِفُ كل شيءٍ ويُكْثرُه.
■ ■ ■
نحو أيّ شمسٍ تصعد
كلّ هذه الرغبات الثقيلة؟
وأين هي السماء،
من هذا الاتّقاد الذي تقوله؟
هل علينا أن نبالغ في الإلحاح،
ليُحبّ أحدنا الآخر؟
لنكنْ خفيفَيْن،
على التربة التي قلّبتْها
شتّى النزَعات المتناقضة.
أنظروا بعناية إلى البستان:
قدَرُه أن يكون ثقيلاً.
لكنّه، من عنائه هذا،
يصنع بهجةَ الصيف.
■ ■ ■
ليس للأرض أن تكون أكثر حقيقةً
إلّا في غصونِك، أيّها البستان الذهبي،
وليس لها أن تطيرَ أكثر
ممّا تطير بين الخيوط التي ترسمُها أغصانك على العشب.
هناك يلتقي ما تبقّى لنا،
ما يُثقل الأغصان وما يغذّينا،
بالعبور الجليّ
للرقّة اللامتناهية.
لكنّ النافورة الهادئة، في وسطكَ،
شبه النائمة في دائرتها القديمة،
بالكاد تفصح عن هذا التبايُن
الذي يمتزج فيها.
■ ■ ■
ماذا ستصنع بنعَمِها
كل هذه الآلهة المتقاعدة،
المأمورة من ماضٍ ريفيّ
بالبقاء متعقّلةً وطائشة؟
إنها تُنضِجُ الفاكهةَ
(يا لهذا العمل الإلهي)
كما لو كانت متّشحةٌ بطنينِ
حشراتٍ تجمّع الرحيق.
لا آلهة تمّحي،
مهما كانت مهجورةً،
إذ لا تخيفنا أحياناً
إلا الآلهةُ المتقاعدة.
■ ■ ■
هل لديّ ذكرياتٌ، هل لديّ آمالٌ،
إذ أرنو إليك يا بستاني؟
ها أنت ترعى حولي، يا قطيعَ الرخاء،
وتفكّر في ذهنِ راعيكَ.
دعني أتأمّل، من بين أغصانك،
هذا الليلَ الذي يوشك؛
لقد عملتَ بما يكفي،
بينما كنتُ في عطلةِ الأحد؛
لكنْ، هل جعلتْني عطلتي أتقدّم؟
مِن أن تكون راعياً، هل ثمة شيء أكثر عدلاً؟
وهل يمكن للقليل من هدوئي
أن ينفذ برفقٍ إلى تفاحاتك؟
لأنني، كما تعلمُ، راحلٌ...
■ ■ ■
ألم يكن هذا البستان، بأكمله،
رداءَك المضيء، على كتفيك؟
ألم تحسّ كم يواسيكَ
عشبُه الطريّ الذي ينطوي تحت قدميك؟
كم مرّةً، في مكان نزهتك،
تملّك الأرض بارتفاعه،
وراح، مع الوقت الهارب،
يعبر كينونتك الحائرة.
رافقكَ كتابٌ أحياناً،
لكن نظرتك المسكونة بالتجاذبات
كانت تتابع، في مرآة الظلال،
اللعبةَ المتغيّرة للتشابهات البطيئة.
■ ■ ■
أيها البستانُ السعيد، المشغول برسمِ
خرائط لا تحصى بكل ثماره،
والذي يجيد مزجَ غريزته القديمة
بطفولة اللحظة،
ما أعظم صنيعك، ما أعظم قانونك
الذي يتبدّى في الغصون الملتوية،
والذي ما أن يُسَرَّ بصلابتِها،
حتى ينثال، نهاية الأمر، في هدوء الريح.
■ ■ ■
أليست مخاطرك ومخاطري أُخوةٌ،
أيها البستان، يا أخي؟
ريحٌ واحدة تجيء إلينا من بعيد،
تُرغمنا على التقشف والرقّة.
■ ■ ■
بورتريه داخليّ
1
ليست الذكرياتُ
ما تبقيكِ داخلي،
ولستِ لي أيضاً،
بقوّةِ رغبةٍ جميلة.
ما يجعلك حاضرةً
هو الانعطاف المتّقد
الذي ترسمه رِقّةٌ بطيئة
في دمي.
لا حاجة لي
إلى رؤيتك أمامي؛
كان كافياً أن أولد
كي أخسرك أقلّ قليلاً.
2
الجميلُ رحيلٌ،
حصّةٌ منّا، تتنحّى،
تعتاد السماوات،
بدلاً من مرافقتنا.
أليس اللقاء الفادح بالفن
أكثر الوداعات رِقّةً؟
أليست الموسيقى هذه النظرة الأخيرة
التي تلقيها عيونُنا علينا؟
3
كيف لي أن أعرف مجدداً
ما كانت الحياة الحلوة؟
بالتحديق ربّما
في رسوم راحتي،
في الخطوط والتجاعيد التي نعتني بها،
بإغلاق يدٍ فارغةٍ
على الفراغ.
4
أليس محزناً أن نغمض عيونَنا؟
بودّنا لو تظلّ جفوننا مفتوحة،
لأنّنا رأينا، قبل الانتهاء،
كلّ خسارتنا.
أليس رهيباً أنّ أسنانَنا برّاقةٌ؟
كنّا بحاجة إلى سحرٍ أكثر تكتّماً
للعيش مع العائلة،
في أوقات السلم.
لكن أليس الأسوأ أن تتمسّك أيدينا،
قاسيةً وجشعة؟
نحتاج أن تكون الأيدي بسيطةً وأمينة
حتى ترفع العطية.
5
بما أن كلّ شيءٍ يمضي،
دعونا نردّد اللحن العابر؛
سيكون على حقٍّ
مَن سيروي عطشنا.
لنغنّي ما يغادرنا،
بحبٍّ وبراعة،
ولنكن أكثر سرعةً
من الرحيل سريعاً.
6
أحيانا تحلّق
الروح/الطائر أمامنا
سماءً حنونةً
تسارع بهدهدتها سلفاً.
بينما نتمشّى
تحت غيوم كثيفة، دعونا
نستمتع بمهارتها المتوهجّة.
7
بجعةٌ تتقدّم فوق المياه
محاطةً بأنفاسها،
مثل لوحة زلِقة.
في بعض اللحظات،
هكذا هو الكائن الذي نحبّه:
فضاءً متموّج بأكمله،
يقترب، مضاعَفاً،
مثلما تلك البجعة السابحة
في أرواحنا المضطربة...
مضيفاً إلى هذا الكائن
صورةً مرتجفة
للسعادة والعذوبة.
8
أصدقائي، جميعكم، لا أستثني
أحداً منكم؛ ولا حتّى هذا العابر
الذي لم يكن من الحياة المتعذّر تصوُّرها
سوى نظرةٍ حنونة، رانيةٍ وحائرة.
كم مرّةٍ، على مضض،
يوقف بنظرة أو التفاتة
فرارَ الآخر الخفيّ،
معيداً إليه لحظةً أكيدة.
الغرباء. لديهم حصّتهم الكبيرة؛
في مصيرنا تكتمل كل يوم.
أنيري، أيتها الغريبة المتكتّمة،
قلبي المشوّش، برفْعِ نظرك إلى الأعلى.
* ترجمة: ميشرافي عبد الودود، والقصائد من ديوان "بساتين" المكتوب بالفرنسية