على طريقة تحية الملوك في القصور الغربية، انحنى الصدر الأعظم توفيق باشا كثيراً وهو يؤدي التحية للسلطان عبد الحميد، رغم رعايته لآداب القصر العثماني، حيث عمل أحمد توفيق باشا كسفير سابق للندن ووزير سابق للخارجية أيضاً. وبعد التحية أشار له السلطان على الكرسي الذي سيجلس عليه. كان الباشا واضعاً يداً على الأخرى فوق صدره وانتظر أوامر السلطان.
قال السلطان عبد الحميد مجاملاً:
- "كيف الأخبار يا باشا؟".
بدأ الباشا في الحديث عن الأوضاع؛ فقد كانت إسطنبول في حالتها الطبيعية، والجيش الأول يحافظ على النظام في العاصمة، وتُناقش المسائل في البرلمان بهدوء، وقد جهز مجلس الوكلاء برنامجاً قصيراً، وإذا وافق السلطان على هذا البرنامج فسوف يقرأه الصدر الأعظم غداً على مجلس الوكلاء. أما عن الأرياف، فكانت آمنة والأخبار التي تأتي من أضنة جيدة. وقد أنهى الباشا حديثه بأن كل شيء على ما يرام.
استمع السلطان عبد الحميد إلى كلام الصدر الأعظم بعناية ولم يقاطعه على الإطلاق، وكان رأسه منحنياً. وبعد أن سكت توفيق باشا، رفع السلطان رأسه ومدّ يده، وأخذ البرنامج الذي تحدث عنه الباشا وبدأ في قراءته ببطء. إلا أن البرنامج كان قصيراً للغاية وانتهى من قراءته سريعاً.
قال السلطان عبد الحميد بأداء كأنه لم يعجبه هذا البرنامج:
- "مناسب".
وبعد أن أعاد الورقة إلى الباشا، حدّق فيه بعينين زرقاوين داكنتين وقال:
- "قبل قليل لخّصتَ كل شيء بشكل جيد. ولم يكن هناك ما يدعو للقلق في العاصمة وبكل الأناضول وولايات العرب، ولكن بدأ الغليان في ثلاث ولايات بلقانيّة. والذين هربوا من إسطنبول كالأبطال ذهبوا إلى سلانيك. وأنور بك وحافظ حقي بك وفتحي بك، الذين كانوا تابعين لسفارات برلين وفيينا وباريس، تركوا وظائفهم واتجهوا إلى سيلانيك ليصيروا أبطالاً للحرية. يريدون أن يلتحقوا بالجيش الذي سيأتي إلى إسطنبول ليكتسبوا شهرة جديدة. ومحمود شوكت باشا قائد الجيش الثالث أنا الذي ربيته، ورفعتُه إلى أعلى المناصب، وعيّنتُه والياً على ولاية مهمة مثل كوسوفا، ويجب أن يضغط على سيلانيك وما حولها. إلا أننا رأينا في الأحداث الأخيرة أنه يجب ألا نثق في صداقاتنا. على الأرجح، لقد بدأ الغليان في سيلانيك ومانستر، وجهزوا القوات للمجيء لإسطنبول. ويوجد في هذه القوات من كل الأعراق والأديان، ولن يكون محمود شوكت باشا هو رئيس تلك القوات بالتأكيد، ولكن هل سيمنع هذه القوات من التقدُّم أم لا؟ وحتى إذا أراد ذلك فهل تكفي إرادته؟".
قال عبد الحميد ذلك بأداء طبيعي وهادئ، فقط كان من وقت لآخر يأتي وكأنه يستهزئ. بعد ذلك سكت السلطان، وضرب بأصابع يده اليسرى الطويلة على الطاولة، ونظر للصدر الأعظم الذي كان مندهشاً.
كان بالتأكيد يفكر: "عندما كنتَ قبل 13 عاماً ناظراً للخارجية، كنتَ تعرف مني بعض الأحداث السياسية، وكنتَ تندهش. ولكن في ذاك الزمان لم تكن الأمور خطيرة مثل اليوم. كنتُ وقتها مسيطراً على الأمور، ولم يكن هناك ضرر كبير ألا تعرف بعض الأشياء آنذاك، لكن الأيام الخطيرة والمخيفة أوشكت على المجيء، وأنت نائم بهذا الشكل".
لم يجرؤ توفيق باشا على أن يسأل السلطان: "ومن أين عرفت هذه المعلومات، وما هي مصادرك؟".
كان توفيق باشا يفكر في أن السلطان عبد الحميد في غير الأوقات التي يتعلق فيها بوهم مقتله أو الاستخبارت المضحكة، فإنه كان يفكر بشكل معقول، ويصدق الأشياء الحقيقية ولا يُشك في كلامه. ووفقاً لما قاله السلطان فيجب إيقاف القوات التي اجتمعت في سيلانيك ومانستر. فإذا عبروا من حدود سيلانيك ووصلوا إلى أدرنة وأُرسل الجيش الأول من إسطنبول فإن بلغارستان التي لم يُصدَّق على استقلالها ستطلب طلبات جديدة، وباستخدام هذه الأوضاع ستُقبل طلباتها.
فكر توفيق باشا في كل هذه الأشياء ثم قال بداخله: "لو كان سعيد باشا في محلي لاستقال سريعاً، وارتاح من كل هذا". لكنه لن يفعل هذا، ولن ينسحب من وظيفته، ولكن ماذا عليه أن يفعل لكي لا يخرج من سيلانيك جيش أمام جيش إسطنبول؟ وكيف لا يفتح على نفسه بلاء جديدا من بلغارستان؟
أدهش السلطان أيضاً أن شفيق بك ناظر الداخلية الذي كان حتى أمس تابعاً للجمعية، ليس لديه علم بالأوضاع في سيلانيك، وهو قادم من هناك؟ فهم السلطان كل ما يفكر فيه الصدر الأعظم الصامت أمامه، حتى إنه حسب أيضاً حساب الأشياء التي لم تأت إلى عقل توفيق باشا، الذي كان ينتظر مقام الصدارة قبل أن يأتي إليها فريد باشا، عندما كان خليل رفعت باشا هو الصدر الأعظم. والآن هو سعيد تماماً لحصوله على هذا المنصب.
قال السلطان:
- "ابذل ما في وسعك من أجل تهدئة من في روملي. وأقنعهم بأنه لا رجعيّة بعد الآن، وكل شيء سيكون على ما يرام، وسيتم العمل بالدستور. سيكون خطيراً جدا إذا خرجت تلك القوات ليس فقط إلى إسطنبول، ولكن من الخطر اقترابها من العاصمة. فالذين يقولون عنها 10 تموز، يعني إعادة العمل بالدستور أنا الذي قبلتُه لأنني كنت أخشى من أن يكون سبباً لمجيء قوات من روملي. وكان هذا مجرد احتمال قديم لكنه أصبح واقعاً اليوم. ولدينا خلافات مع بلغارستان، وتوترت علاقتنا مع اليونان: من الممكن أن نبقى بين نارين. لقد دخلت السياسة إلى جيشنا وهذا يعني أنه أصبح ضعيفاً. انتبه لمسألة الحفاظ على أمن إسطنبول وبقية الولايات. وكن على صلة دائمة بالبرلمان، وأبلغهم سلامي. لقد قرأتُ البيان الذي نشروه بامتنان، وليخاطبوا الناس مرة أخرى ويعلنوا أنه لم يعد هناك حركة رجعية، وسوف يتم الحفاظ على الدستور، يعني إذا طالب الجميع بإيقاف العمل بالدستور فلن أقبل مرة أخرى".
استمع الصدر الأعظم إلى كلام السلطان بعناية واحترام، وكان يهزّ رأسه تصديقاً على كلام السلطان. ووعد بأن سيفعل كل شيء كما ذكر السلطان، ثم طلب الإذن منه وانصرف.
كان السلطان قد أعطى توفيق باشا منصب الصدر الأعظم مؤقتا في أحداث 31 آذار، وكان عبد الحميد يعرف جيداً أن الباشا ليس هو الشخص الذي بإمكانه السيطرة على الأوضاع. كان السلطان يفكر بعد ذهاب الصدر الأعظم وهو متعب ويائس وبلا حيلة: إنه متعب الآن وبلا حيلة مثل اليوم الذي أُعيد فيه العمل بالدستور وتم إرسال عزت باشا العربي لإبلاغ مجلس الوكلاء بالقرار، وكان المجلس مجتمعاً منذ 36 ساعة. إلا أنه في ذاك الوقت كان هناك رجال من أمثال عزت باشا، وكانت الإمبراطورية كلها هادئة، أما الآن فقد بدأ النفاق والاختلاف في كل ناحية. والسلطان نفسه يشعر بأنه قد تهاوى بسبب هموم التسعة أشهر الماضية، وفي الأساس صار يقترب من السبعين.
كان يفكر نادماً، لأنه كانت لديه الفرصة لأن يجعل جمعية الاتحاد والترقي ممتنة له، وها هو الآن يشعر بالندم لعدم استغلال تلك الفرصة. فلم يجرؤ الباشوات على الأمر بقمع تمرد 31 آذار الذي قام به الرجعيون، فلماذا لم يعط بنفسه أمراً بقمع التمرد بصفته السلطان والخليفة؟ لو فعل هذا لانتصر بالتأكيد، وكأنه السلطان الذي يحب المشروطيّة.
إلا أنه شاهد مُنتشياً الاتحاد والترقي في موقف صعب، وبالتأكيد سينتقم منه الاتحاديُّون يوماً ما. وفي الأساس، حتى لو كان قد قمع تمرد 31 آذار، فكان هناك شك أيضاً أن يكون الاتحاديُّون مقدرين لذلك. وهناك احتمال أيضاً لأن يكون تمرد 31 آذار من صنع الاتحاديين أنفسهم أو من صنع أحدهم، لكي يكتسبوا نفوذهم من جديد، ويُسقطوا السلطان.
وقف السلطان عبد الحميد ثم ذهب لمشاهدة الحَمَام في المكان الذي يحُطُّ فيه من أجل نسيان كل شيء وعدم التفكير في أي شيء.
* ترجمة عن التركية: أحمد زكريا وملاك دينيز أوزدمير، والنص المقتطف هنا فصلٌ من رواية أوريك "أيام السلطان عبد الحميد الأخيرة" الصادرة أخيراً بالعربية عن دار "الأهلية"