يُعَدّ سؤال الحرّية من الأسئلة الأساسية التي تدور حولها الفلسفة الأوروبية منذ عصر الأنوار، بحيث لا يمكن لطالب الفلسفة، في بلدٍ مثل فرنسا، إلّا أن يمرّ بدرسٍ مخصّص له في عامه الدراسيّ الأوّل أو الثاني، وهو درسٌ غالباً ما يُستعاد فيه تاريخ فكرة الحرّية، والاختلافات الكبيرة في النظر إليها وفي تعريفها بين الفلاسفة.
لكنْ بخلاف العديد من ثيمات الفلسفة البارزة، لا يظهر سؤال الحرّيّة لدى الأسماء البارزة في الفلسفة اليونانية القديمة، مثل أفلاطون وأرسطو، رغم وضع الأخير، على سبيل المثال، نظرية دقيقة ومعقّدة حول الفعل والسلوك البشريين. وقد بقي سؤال الحرّية حبيساً لمقولة الحتمية حتى القرن الميلادي الرابع، الذي شهد الربط، للمرة الأولى، بين هذا المفهوم وبين القدرة على الاختيار، كما ظهر ذلك عند فيلسوف مثل القدّيس أغسطينوس (354 ــ 430).
في كتابه "جينيالوجيا الحرّيّة"، الصادر حديثاً لدى منشورات "سوي" في باريس، يقترح الباحث الفرنسي أوليفييه بولنوا قراءة تاريخية في مسار مفهوم الحرّيّة، بدءاً من نفيه، أو ظهوره بشكل سلبي ومرتبط بالحتمية القدَرية أو الطبيعية، في الفلسفات الإغريقية القديمة، وصولاً إلى القرن الثامن عشر، مع فيلسوف مثل كانط، وحتى مطلع القرن العشرين، مع فرويد وتعريفاته للمفهوم.
يتوزّع الكتاب على أربعة أقسام مؤلّفة من أربعة عشر فصلاً، حيث يخصّص بولنوا القسم الأوّل لـ"بناء المشكلة" التي يطرحها مفهوم الحرّية، والتي تفتح على أسئلة حول الإرادة، والحتمية، والوعي واللاوعي، مذكّراً بالمعضلة التي لا يكفّ هذا المفهوم عن إيصال الفلاسفة إليها، إن كان لدى الرواقيين القدماء، أو حتى لدى كانط وفيتغنشتاين.
وفي حين يتركّز القسم الثاني من الكتاب حول قراءة لمعنى الفعل عند أرسطو، فإن القسم الثالث منه يتتبّع الحدث الأبرز، ربما، في تاريخ مفهوم الحرّية: أي ولادة فكرة الاختيار الحرّ أو الإرادة الحرّة، والتي سيصبح، في الوقت اللاحق من الاشتغال الفلسفي الأوروبي، التعريف الأكثر شيوعاً للحرّية. أمّا القسم الأخير، "عصرٌ وسيط طويل"، فيتناول النقاشات التي دارت بين فلاسفة ذلك العصر ــ مثل توماس الأكويني ودان سكوت ووليم الأوكامي ــ حول العارض والضروري، حول الحادث والصدفة، وحول التعارض بين الرغبة والإرادة من جهة، والطبيعة من جهة أخرى، مُنهياً هذا الجزء بتذكير بالقراءات الحديثة لهذه النقاشات.