شغل مفهوم السَّببية المُتكلّمين المُسلمين الأوائل، فحولَه دار الكثير من الجدل الفكري بين الفِرَق الكلامية مثل المعتزلة والأشاعرة التي اختلفت في ما لو كان الإنسانُ مُخيَّراً أم مُسيَّراً، وكذلك تناوله أعلام الصوفية وأقطابُها في كتاباتهم مثل ابن عربي والسهروردي والغزالي.
عن "منشورات نادي الكتاب" صدرت الطبعة العربية من كتاب "الإسلام والسببيَّة والحرّية: من العصر الوسيط حتى العصر الحديث" لأستاذ الدراسات الإسلامية والفلسفة أوزغور كوجا، بترجمة إياس حسن وأحمد م. أحمد. وفيه يقدّم الباحث تحليلاً لـ طُروحات المُفكّرين المسلمين حول السببيّة من حيث علاقتها بـ"الله والإنسان والطبيعة" في الفترة المُمتدّة من منتصف القرن الثامن إلى منتصف القرن العشرين الميلادي.
ويتناول كوجا في كتابه (صدر بالإنكليزية عن "منشورات جامعة كامبردج" في 2020) أفكار أحد عشر فيلسوفاً ومُتكلِّماً، يتوزّعون على فترات ومراحل زمنية مختلفة، وهُم: ابن سينا، وابن رشد، وأبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي، والجرجاني، والسهروردي، وابن عربي، والقونوي، والقَيصري، وملّا صدرا الشيرازي، وسعيد النورسي.
ينطلق الكتاب من الخلاف الرئيسي الذي ميّز المعتزلة عن الأشاعرة، وظلّ قائماً قرابة ثلاثة قرون من منتصف الثامن إلى الحادي عشر الميلادي، فحيث ذهب الفريق الأوّل إلى أولوية الحرية في تفسير الفعل الإنساني، ومن ثمّ استحقاق الثواب والعقاب بناءً على ما اختاره الإنسان، فإنّ الفريق الثاني ذهب إلى القول بـ"الكسب"، وأنّ الحرية المُطلقة هي بيد الله وحده، وهو يُنزل مشيئته على عباده.
كذلك يبحث العمل في مساهمات الغزالي والرازي اللذين طوّرا المفاهيم الأشعرية بغاية الردّ على الفلاسفة من أمثال ابن سينا، وفي هذه المساحة عاد مفهوم الكسب ليأخُذ مدىً أوسع، حيث اشتبك مع جهاز مفاهيمي فلسفي أبعد من حدود علم الكلام الأولى. ويرى كوجا أنّ فهماً ثالثاً نشأ كردّ على هذين التيارَين الأساسيّين، ومثَّله ابن رشد، الذي نادى بنوع من التشاركية بين إرادة الله وإرادة الإنسان، ومن ثمّ تطوّرت هذه الدعوى على يد المتصوّفة لاحقاً فيما عُرف بـ"وحدة الوجود".
واللافت في الكتاب أنه يجمع بين المدارس أو الآراء الأولى والمتأخّرة، فكما بدأ بالمعتزلة وعرّج على آراء ابن سينا والملّا صدرا الشيرازي، نراه يختم بأفكار المُصلِح التركي سعيد الدين النورسي (1876 - 1960).