استمع إلى الملخص
- التحديات النفسية والاجتماعية: تقدم المراكز أنشطة للصحة النفسية والتنمية العاطفية لمساعدة الأطفال على التعافي من الصدمات النفسية، لكن التعافي يظل تحديًا بسبب مشاهد الدمار المستمرة وغياب الدعم الدولي الفعّال.
- الواقع المأساوي والمستقبل الغامض: تعكس الصور من غزة واقعًا مأساويًا مع استمرار استشهاد العائلات ومخاطر الغرق في الشتاء، حيث يحاول الأطفال والمعلمون التمسك بالأمل والتعليم لمواجهة الموت والدمار.
ربّما لا تعني اللوحة أيّاً من الطلبة الجالسين بحضرة معلّمتهم، بنظراتٍ ساهمة ومشتّتة، مثل أقرانهم في جميع أنحاء المعمورة، مع فارق بسيط يتمثّل في كون الصورة التي التُقطت في الثامن من أيلول/ سبتمبر، هي لأطفال في أحد المراكز التعليمية المؤقّتة بجباليا، شمالي قطاع غزّة، تُرهبهم نظرة شاردة إلى الخارج، لذلك يغطّي أحدهم وجهه بكتاب أو يعبث بقلمه، أو ينظر أمامه بلا غاية!
اللوحة في أعلى هذه الصورة مكتوبٌ عليها باللغتين العربية والإنكليزية: "هذا بيتكم الصغير"؛ عبارةٌ مرّ عليها الطلبة أو بعضهم منذ دخولهم الخيمة، التي يفترض أنّها حلّت مكان واحدة من أصل 677 مدرسة هُدّمت أو تحوّلت إلى مركز للإيواء منذ بدء العدوان. كيف قرأ هؤلاء الصغار هذه الكلمات الثلاث؟ هل ما زالت أسماء الإشارة "هذا" و"هذه" و"ذلك" و"تلك" تعني دلالاتها المتعيّنة للقريب والبعيد؟ كيف تُستخدم هذه الأسماء عندما تكون وسط إبادة لا حدود لها في الواقع والمُخيّلة؟ وماذا بقي من دلالة للبيت بوصفه مكاناً للمبيت والسكن والسُكنى والإقامة والمأوى والملاذ والمنزل، حين تنزح لأكثر من عشر مرّات، وعشرين، خلال عامٍ واحد! أمّا الصغير والكبير فقد تصبحان مفردتين فائضتين عن الحاجة حيث صوت الانفجار والدمار والألم والقهر يمحو كلّ رسم أو تصوُّر لحجم أو شكل أو هيئة!
التعافي من الجحيم وأنت بداخله، لأن إنقاذك ممنوع بقرار دولي
الصورة ذاتها مرّت مع صُوَر تشبهها، مع الإعلان عن افتتاح "منظّمة الأمم المتحدة للطفولة" (يونيسف) قرابة 175 مركزاً مؤقّتاً للتعليم، تُقدّم دروساً في القراءة والكتابة والحساب لحوالي 30 ألف طالب. وبلغة الأرقام، التي باتت تختزل مأساة العصر، فإنّ أكثر من 600 ألف طالب لن يحصلوا على هذه الخدمة، بعد توقّف التعليم في غزّة للعام الدراسي الثاني. وسُيضاف إلى الدروس، بحسب صياغة الخبر، أنشطة الصحّة النفسية والتنمية العاطفية! وبعيداً عن أيّة تفسيرات مكرورة، فإنّ هذه الأنشطة يمارسها طلبة لا يزالون يعيشون القتل والإصابة والإعاقة والفقد والوجع والخوف؛ محاولة للتعافي من الجحيم وأنت بداخله، لأنّ إنقاذك منه ممنوع بقرار دولي.
وعلى جانبَي عبارة الترحيب بأطفال جباليا في "بيتهم الصغير"، لوحتان عليهما حروف الهجاء بالعربية والإنكليزية، لأنّ خبراء التعليم يعتقدون بربط شكل الحرف بصوته. هل سيرتبط شكل الألف لدى الأطفال بصوت الانفجار، والباء بصوت البرد الذي نهش أجسادهم في الشتاء الفائت، وهو يبعد الآن عنهم بشهر أو شهرين؟ نقفل هنا باب المخيّلة تجنّباً للوقوع في فخّ السخف والابتذال.
خِيَم حلّت مكان 677 مدرسة هُدمت أو تحوّلت إلى مركز للإيواء
في الصورة التي أتأمّلها لساعات، يظهر أطفال سدّوا باب المخيّلة وفتحوا دفاترهم ليخربشوا أحرفاً غير مفهومة أو ليرسموا أطفالاً بسمرة داكنة بسبب اكتوائهم بأشعّة الشمس لأشهر طويلة، وغالباً بأجساد نحيلة وثمّة بُقع بيضاء غطّت مساحات من الشعر، وسيلاحظ المعلّمون والمدرّبون سقوط قنابل من أعلى رسوماتهم، أو طائرة تقبض على أحلامهم، أو دبّابة تُطلق النار صوب أحبّة ومنازل وذكريات.
لكن طالباً يتمسّك بالواقع أكثر، سيرسم ما يشاهده ببصره لحظة الدرس؛ سقفٌ من القماش على أعمدة الخشب وطاولات صُنعت بخشب كذلك لا تفتح النفْس على علمٍ أو طعام، وكراسي حمراء تُستخدم في حفلات الأعراس ومآتم العزاء، ومعلّمة متّشحة بالسواد تجمع طاقتها وترفع الصوت، وهي تنطق مفردة وتعيدها مرّات للتأكيد على وجودها في المكان، وأنّ للصوت صدى في العراء حتى لو انهارت أبنية وحقائق، وأنّ صوتها وأصوات طلبتها تنطلق ذبذبات تقترب من بعضها وتفتّش عن أملٍ يخاتل الموت.
صورةٌ عاديةٌ وسط فيضان صور أغرقنا منذ الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر 2023. صور غزّة إذ يخنق روحَها الوحشُ، الذي يحتمي بالرجُل الأبيض وأنظمة الاستبداد والفساد والخرافة، وتتوالى الأنباء في يوم نشر الصورة: استشهاد خمسة مواطنين من عائلة واحدة في جباليا، وتحذير للنازحين في دير البلح من أجل إخلاء المنطقة تحسّباً لخطر الغرق خلال فصل الشتاء المقبل، واستشهاد امرأة فلسطينية وطفلتها في خانيونس، وبدء المرحلة الثانية من تطعيم شلل الأطفال - في حملة وافق عليها جيش الاحتلال خوفاً على جنوده من العدوى-، وعدّاد الشهداء يتجاوز 17 ألف طفل من أصل 40 ألفاً وُثّقت أرقامهم حتى الثامن من أيلول/ سبتمبر 2024.