أنا وتوركان خاتون

04 أكتوبر 2024
صيد النمر في منمنمة فارسية تعود للقرن السابع عشر (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- يصف النص تجربة الكاتب في غابة مليئة بالحيوانات المفترسة، حيث يلتقي بنمر أليف يُدعى "وريدة" تم ترويضه من قبل توركان خاتون، مما يعكس جمال الطبيعة وقوة الروابط بين الإنسان والحيوان.
- يتناول النص خطط الإنجليز لتجفيف الغابات وبناء الطرق، مما يهدد البيئة والنمور، ويُظهر قلق الشخصيات من تأثير هذه التغييرات على حياتهم، مع التركيز على التوترات بين القوى الاستعمارية والمجتمعات المحلية.
- يُبرز النص شجاعة توركان خاتون في ترويض النمر، ويشير إلى التحديات التي تواجه الشخصيات في رحلتهم عبر النهر، مما يضيف عنصر التشويق والإثارة.

من أين أتى ذلك الحيوان الغريب؟ من النخيل أم من شُرفة القصر؟ كدتُ أُصاب بنوبة. يستطيع هذا الدخان الأسود وصوت المُحرّك المُزعج أن يُوقظا جميع حيوانات السهل. لا شكّ في أنّ كلّ الغابة عرينٌ تختبئ فيه العشرات من الحيوانات المفترسة؛ لكن لا يهمُّني ما في الغابة. شكلُه البريُّ يُثير جنوني. شلّالاتٌ خضراء مُتناثرة على الشواطئ الحمراء. ليس في متناول يدي طينُ الشاطئ وإلّا كنتُ سأصنع تمثالاً لتوركان خاتون وأضع محّارَين أبيضَين في محجَريها. دون رغبتي يفيضُ اللون والزيت من أصابعي. لا أستطيع السيطرة على مشاعري المُتمرّدة. ليتَ غوغان لم يذهب إلى هاييتي وجاء إلى هُنا. عالَم غامض وبِكرٌ لم ترسمه أيّ ريشة. يجب النظر إلى أشجار النخيل الطويلة والخشنة بعينَي امرأة. شعور بالحيوية يملأ شرايين صدري. أستطيع أن أُسمّي لوحتي: "أرض الشمس والعنف".

هل رُوّض ذلك الحيوان الغريب حقّاً؟ هناك شعور بالرعب لا يزال يهزّ جسدي. عندما أنظر إلى الماء أرى نفسي ولوحتي تتراقصان على سطح الماء بمزيج من المشاعر الملوّنة. تتجزّأ الألوان في الماء. اللون الأزرق يجعل عروقي أكثر وضوحاً وهو أكثر شفافيةً من زُرقة الماء. اللون الأخضر للوحة يمتزج بخُضرة الغابة. أرى عيوناً تلمع من داخل الغابة.

يُعميني نور العيون ودون أن أرغب أقفزُ من الكرسي. خوف مفاجئ يجعلني أقترب من توركان خاتون. تسلّيني وتقول للحيوان الواقف أمامنا: اذهبْ يا "وريدة".

وبدلاً من الذهاب يُصدر الحيوان الغريب زئيراً رهيباً ويقترب منّا. تقولُ لي توركان خاتون: لا تخافي، "وريدة" يريد أن يلعب معك ويحبّ أن يُبدي دلالَه.

وأنا التي كنتُ خائفة قلتُ لنفسي: "يا له من دلال لطيف".

يستلقي الحيوان ويحكُّ ظهرَه بذيله. يفتح فمَه ويعرض أسنَانه البيضاء. ألتصق بتوركان خاتون. أشعر بأنفاس توركان خاتون الممتزجة بأنفاس الحيوان الدافئة على وجنتي. خدودي رطبة. هل أنا خائفة بحيث انفجرتُ من البكاء؟ ألمس خدّي. هذه أنفاس الحيوان الرطبة. تُمسّد توركان خاتون جبين الحيوان. يزأر الحيوان. يقف على قدميه وهو يزأر يدور حول نفسه. أرمي بنفسي في حضن توركان خاتون وأخفي رأسي في طيّات تنورتها. تقول توركان خاتون: مدام! انهضي. "وريدة" حيوان غير ضارّ.

لكنّني روّضته وسمّيته "وُرَيدة"، مؤنسي الوحيد هذا الحيوان

أرفعُ رأسي قليلاً. وخْزُ شوارب الحيوان الغريب كالإبر وهو يزأر. تقول توركان خاتون مرّة أُخرى: المسكين يشعر بالغربة. إنه جائع أيضاً.

تدفع الحيوان إلى الخلف قليلاً لأتمكّن من رفع رأسي والجلوس بجانب توركان خاتون. تقول لي مرّة أُخرى: لا تخافي، "وُرَيدة" حيوان أليف.

يتقدّم الحيوان. يرفع يدَه اليُمنى ليُصافحني. أتراجع وفي الفناء حيث نجلس أبحث عن مكان آمن لأختبئَ فيه. تُسلّيني توركان خاتون. لم أستطع النظر في عينيّ الحيوان اللّامعتين.

صفّقت توركان خاتون وجاءت خادمة. قالت لها أشياء بالعربية وبعد لحظات أحضرت الخادمة طبقاً مليئاً باللحم؛ لحم شاة. قالت لها توركان خاتون أن تبعد الطبق. ابتعد وريدة عنّا وذهب إلى الطبق. زال خوفي شيئاً فشيئاً وتمكّنتُ من النظر إلى ذلك الحيوان المُخيف. بقع ملوّنة تغطّي جسم الحيوان وقد برزت بقعٌ سوداء على خلفية جلده القمحي.

- إنه نمرٌ. أليس كذلك؟

- صحيح يا مدام. منذ عام ذهبنا أنا والشيخ الكبير إلى الغابات المجاورة للصيد واصطدنا هذا النمر. لكنّني روّضته وسمّيته "وُرَيدة" أي الوردة الصغيرة. بعد وفاة الشيخ الكبير مؤنسي الوحيد هو هذا الحيوان.

قلتُ في نفسي: لماذا وُرَيدة؟ ونظرت إلى النخيل في تلك الغابات. تتألّق تلك العيون في الغابة الآن وفي انعكاسها على سطح الماء تنكسر هناك وتتوزّع في الماء. كان الماء هو الحدّ الفاصل بيننا وبين الغابة. مرّ يوم منذ أن تعطّلت باخرة الشيخ ورَست أمام هذه الغابة الجميلة والغامضة.

أخاف من هاتين العينَين اللّامعتين. وأتمنّى أن يتم إصلاح الباخرة سريعاً ويأخذنا معه هذا النهر الكبير. وضعتُ مسند الرسم على متن الباخرة منذ اللحظة التي غادرنا "الفيلية"، لكنّني لا أستطيع الرسم دائماً. تمنعني الأمواج. أنا في الواقع أرسم على سطح الماء وما أرسمُه أرى صورته على الماء. من الأمام أيضاً صورة الغابة على الماء. كأنّ هناك رسّاماً مُحترفاً يُنافسني. لا أرى يديه لكنّي أرى أثره على الماء. قريباً من ضفّة النهر تتداخل رسماتُنا ولم أستطع بعدها الفصل بين الألوان والخطوط. يمتزج كلّ شيء معاً. أستخدم فرشاتي فقط في الصباح والمساء وفي بقية النهار تحرق الشمسُ الجلد. هل يجب أن أُحضر تلك العينَين المُلتَهبتين إلى لوحتي؟ يجب أن أُقنع نفسي بأنّني لا أخاف النمور. عندما انتهى النمر من أكله الطعام نظر إلينا مرّةً أُخرى. كأنه يضحك وقد بدا مسروراً.

قالت توركان خاتون: غابات شاطئ كارون مليئة بالنمور.

قالت للحيوان: "وُريدة، وُريدة" تقدّم.

ثم لمسَت شاربه وقالت: يُشبه شارب الشيخ الكبير. المغفور له كان يحبّ هذا الحيوان كثيراً. يلعبان معاً ويتصارعان. كان الشيخ يُعطيه كحول التمر ويسكران معاً. إنّه منظر جميل يا مدام. كلّما أخطأ أو اعتدى على الشيخ يقيّد الخدم يديه وقدميه.

رفعت توركان خاتون قطعة من اللحم ووقف النمر على قدميه ليلتقطها من يديها. وعندما أكل اللحم وقف على قدميه مرّة أُخرى وهو يزأر. تُحافظ أن يشبع النمر حتى لا يحدث ضجّةً.

سألتُ توركان خاتون: سمعتُ أنّ الإنكليز يُريدون تجفيف الغابات على الساحل. هل هذا صحيح؟

وردّاً على سؤالي سألتني: لماذا أنتم الفرنسيون أول من يسمع هذا النوع من الأخبار؟

سألتُ مرّة أُخرى: هل يُريدون بناء طريق؟

قالت: إذا فعلوا ذلك سيسيطرون على المنطقة ويُغلقون متاجركم.

سألت: وماذا يحدث للنمور؟

- هذا واضح. سينقرض نسلُها.

- وما رأي الشيخ الشابّ في ذلك؟

- إنه مُخالف تماماً.

- لكنّني متأكّدة من أنّ الإنكليز لن يستسلموا. ولا تزال آثار رصاصهم على حصار المحمّرة. إنهم يخطّطون لخمسين أو مئة سنة بعد.

يُحدّق بي النمر. ربّما شعَر بأنني أُفكّر بمصيره. إنه لطيف وجميل عندما لا يعرض أسنانه. أصبحت مفتونةً بلون جلده. عندما تغرب الشمس يلمع جلدُه القمحي مثل عينيه المليئَتين بالدّم. منذ وقت طويل وهو جالس في مواجهة السفينة وينظر إلي بإصرار. ربّما ينتظر أن ننام. لا أعرف بم يفكّر. هل يرسم خطّة؟ ربّما يستطيع أن ينال منّي أنا المرأة لكنّه لم يستطع ذلك مع المسيو والميكانيكي والخادم. 

النوم وسط الماء. لم أكُن أحلُم به أبداً. هل سنكون الليلة فريسة لهذا النمر ذي الأسنان الحادّة؟ كم هي جريئة توركان خاتون على ترويض "وريدة" كقطّةٍ مدلّلة. الإنسان الأليف يرغب في الحيوان الأليف. البريطانيون لا يحتملون رؤية بعض متاجرنا في هذه المدينة. يا لها من مغرورة جارية الشيخ هذه. "كنتُ حبيبة الشيخ الكبير وأُتقن أربع لغات: العربية والفارسية والتركية والروسية". عندما تقول هذا تتّخذ دور كليوباترا. والحقيقة أنّه لو لم يمُت الشيخ الكبير ماذا كانت ستفعل؟ لا بدّ أنها تقوم بإخصاء النمور. الجارية الإسطنبولية تقوم الآن بتعيين خليفة للشيخ الكبير؛ أي أنهم يقومون بتعيينه وهي من يُوافق. لا يرغبون في مزعل. كان خزعل مُطيعاً. إيّاك أعني واسمعي يا جارة. لا جمَل لي ولا ناقة. رسّامة مفتونة تكتب الرحلة ثم يأتي كاتب مفتون بعد مئة عام ويكتب قصة أو مسرحية عنها. أوه! يا لها من تخيّلات بعيدة. ومن سيبقى حتى ذلك الحين؟ وبهذه الخردة التي تسمّى باخرة الشيخ الخاصة ووجود النمور على امتداد الساحل لستُ واثقة من أن نصل أحياء إلى الأهواز.

عندما استقرّ الميكانيكي خلف مقود الباخرة عرفتُ أنها تستعدّ للانطلاق وعندما تهبُّ الريح بسعف النخيل تهتز. كأنها تلوح لنا. لقد بقي النمر مع توركان خاتون في القصر. مجد النمر وذاكرة النخيل الخضراء وطعم البلح وحلاوة الموز والبرتقال في حديقة الشيخ ستبقى معي إلى باريس.

مزعل، أو كما تسميه توركان خاتون الشيخ الشاب قام بوداعنا على باخرته الخاصة حتى وسط النهر. كان شقيقه الأصغر بجانبه يبدو قلقاً. لكنه يحاول إخفاء ذلك بابتسامة مزيّفة.

قد يكون أول ما يُخبرنا به القنصل عند وصولنا إلى الأهواز غرَقُ الشيخ الشابّ وسط النهر.    
 

* ترجمة عن الفارسية: حمزة كوتي



بطاقة

يوسف عزيزي بني طُرُف، قاصّ ومُترجِم وصحافي عربي من مواليد الأهواز عام 1951، يكتب باللُّغتين الفارسية والعربية. من أعماله في القصّة القصيرة باللغة الفارسية: "عيون شربت"، و"حته، النهر والمستنقع"، كما له في الترجمة: "أوراق الزيتون" لمحمود درويش، و"يوم قُتل الزعيم" لنجيب محفوظ، و"عائد إلى حيفا" لغسان كنفاني.
 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون