عقب ثورة يناير 2011، انشغل الجميع بتوهّم الانتصار السياسي. لم ينتبه أحد إلى قولبة شُهداء الثورة وحَصْرهم، حسب الوجاهة، في صورة واحدة تجمع "الورد الذي فتّح في جناين مصر". عندها ظهر الناشط والطبيب الشاب محمد أبو الغيط بتدوينة حملت عنوان "الفقراء أوّلًا يا ولاد الكلب"، التي دافع فيها بإصرار عن أحقّية الشُّهداء الفقراء والمهمّشين في مشهد الصدارة ذاك.
بعد أحد عشَر عامًا، شهدت خلالها مسيرتُه كصحافي وكاتب مُهتمٍّ بالشأن العام، استمراريةً وزخماً متواصِلَين، رحلَ أبو الغيط في السادس من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بعد صراعٍ مع المرض، وعن عمر يناهز 34 عامًا. رحلَ المُحرّر والمعدّ في "التلفزيون العربي" لاحقاً، تاركاً وراءه إرثاً صحافياً ثريّاً، إضافةً إلى حضور نبيل وفريد، يدفعنا للنظر إلى مفاهيم الحبِّ والرحمة والغيرية على أنّها لم تعد مفقودة.
يُلخّص أبو الغيط مسيرته في كتابه "أنا قادم أيها الضوء"، الصادر مؤخّرًا عن "دار الشروق"، فيكتب: "ثلاثةٌ وثلاثون عامًا، لكنّها اشتملت حيوات عدّة، عشتُ في صعيد مصر، وانتقلتُ إلى القاهرة، ثم إلى لندن. عملتُ طبيبًا، ثم انتقلتُ إلى الصحافة المحليّة، ثم إلى الدولية. وقد صادف ذلك مرحلة تاريخية نادرة للغاية، بوقوعي في قلب أحداث الربيع العربي. ذات يوم، لم يكن في جيبي جنيه مصري واحد، وذات يوم آخر، كان حسابي البنكي عامرًا بعشرات الآلاف من الدولارات. في أوقات، حاولتُ شرح الأفكار للفلّاحين في قريتي بصعيد مصر، وفي أُخرى كنت أشرح الأفكار ذاتها لأنطونيو غوتيريس، أمين عام الأمم المتحدة، خلال مراسم تسليمه جائزة لي. عجيبةٌ هي الأقدار وألاعيبها، كأنما طُويت حياتي وكُثّفت، فمنحتني بسرعة كثيرًا من السعادة والتوفيق، كما انهارت على رأسي بنفس السرعة. كنتُ مرارًا أصغر صحافي في صُحف وقنوات عملت بها، كما أنني الآن أصغر مُقيم في جناح الرعاية الخاصّة بمرضى السرطان في ذلك المستشفى البريطاني".
نظر إلى المرض بوصفه مجازاً عن واقع ما بعد الثورة
منذ إصابته بالسرطان، بدأ أبو الغيط كتابة تدويناتٍ على فيسبوك، باحثًا عن الضوء. ليتبيّن في نهاية الأمر أن رحلته كانت يقظةً لا منامًا داخل حلم طويل، ولذلك ظهرت بصورتها الكاملة. صحيحٌ أنها تنتهي بالنسبة له عند موته، لكنها ها هي تبدأ عندنا، لتُبصِّرنا أشياء كثيرة.
أملٌ كاذب يُنذر بنهاية الأرض
أمام الإصابة بالسرطان، تسلّح أبو الغيط بروح محاربٍ. فالمُقاتل يعرف جيدًا أداوت المقاومة، ليحدّد الكتابة كمركز دفاع. ورغم الإيمان بفاعليتها، إلّا أنّه يتساءل أحياناً "لماذا أكتب؟". ويجيب بأن الكتابة هي أثرُه في الحياة، أهراماتُه الخاصة، يتركها للوقت الذي سيتجاوزه لاحقًا، ليحدّد زمن بقائها منتصبة من بعده.
في الكتاب المُقسّم إلى عدة تدوينات تأمُّلية حول الذات وتاريخ العائلة ومجازات المرض، إحصائياتٌ ميدانية واستنادات إلى كتُب بحثية وأدبية، معلوماتٌ تفصيلية عن السرطان وبروتوكولات علاجه. لم يفقد أبو الغيط أمله عند معرفة خبر الإصابة بالمرض. إذ وضع نفسه، وعبر آلية عمَلية سريعة، أمام موقف واضح من شكل الكتابة، التي لا يُمكنها أن تُبالغ في الأمل ولا أن تستسلم للموت مُبكّرًا.
دافع أبو الغيط بدايةً عن هويته، حتى يستطيع أن يُكمل رحلته وهو يحمل تعريفًا استقلاليًّا عن شخصه، رفض أن يكون السرطان غزوًا كاملًا للحياة. إذ لا يتمّ تحديد الشخص، بكامل وجوده، في تعريف المريض بالسرطان، دون أن يقع في فخّ الألم الزائف واستسهال صعوبة المرض.
تتّسم مُساءلة أبو الغيط في كتاباته بالفَحص والرغبة في إعادة تعريف الأحداث الشخصية، كأنّها مرحلة العيش أبدًا، وليس تصاعد احتمال الموت. يستدعي حياته بين مَسارَيِ الصحّة والمرض، متأمّلًا المفارقات بينهما، من قيمة العادات المفقودة، إلى نشاطه اليومي بوصفه صحافيًّا وأبًا وزوجًا. مفارقاتٌ منفتحة على العالم، ليست مُجرّد يوميات مريض، بل مادّة لقراءة الآخر من خلال مُكاشفة الذات.
سؤال الألم في زنزانة المرض
يكتبُ أمل دنقل، عن المرض وأسلحته، في "أوراق الغرفة رقم 8": "كلُّ هذا يُشبِع قلبي بالوهن/ كلُّ هذا البياض يُذكّرني بالكفن".
عندما يتسلّط المرض، مُنتشرًا بوحشية في أنحاء الجسد، ويفقد أبو الغيط حرّيته في التعاطي مع جسده، ومع الزمن، يتحوّل المرض إلى مجاز للسجن. ثمّة سلطةٌ عُليا تتحكّم في المصير، مع أرجوحة التطوّر والتداعي؛ مرّة ينتصرُ الجسد ومرّات يتداعى، لكن القاسم المُشترك بين السجن الفعلي وسجن المرض، هو السؤال حول معنى الألم والمعاناة وانتظار الموت، غير أن العقاب الأكبر في سلطة المرض هو العبث.
مثلما يُعذَّب سيزيف بحمل الصخرة إلى أعلى الجبل، ثم تعود إلى الأسفل، ويعُيد حَمْلها في دورة أبدية، فإن العبث ذاته يتمثّل في المرض، في أن يُسجَن الجسد ويُحجّم بجحيم انتظار الموت. لكنّ ذلك التراجُع، ليس مانعًا كافيًا لمحاولة كَسْب الذات، والدفاع عنها، ومحاولة إخراجها بعيدًا عن غنائم المرض، إذ إن "كلّ خسارة لا نخسر فيها أنفسنا هي خسارة عابرة"، مثلما يقول إبراهيم الكوني. يتذكّر أبو الغيط هذه الجملة، ولا يتراجعُ أبدًا في الدفاع عن ذاته.
ثراء تجربة أبو الغيط ساعده في الانتقال إلى الأطراف الماثلة أمامه، يُمكنه بحُكْم عمله طبيبًا لفترة، أن يفهم الطبيب بأسلوبه هو، أن يتأمّل الدقّة في خياطة جُرحه، وأن يجد طريقة مناسبة ولطيفة للتعامُل مع المُمرّضات. وبحكم عمله الصحافي الاستقصائي، فإنه يتناول كلّ الشخصيات الموجودة في حياته، مُحاولًا عرضها في سياق مستقلٍّ بماضيها وحاضرها، يقرأ كلّ شخص حوله باهتمام مُخلِصٍ، مُحافظًا على وجودِ الآخرين بعيدًا عن علاقته الحصرية بالمرض.
محاربة المرض ببُعدٍ رسالي
في مرحلة متقدّمة من المرض يقول أبو الغيط: "لا تنفي خصوصية تجربة المرض كونها شأنًا عامًّا، كما لا تلغي عموميتُها ذاتيتَها البالغة". يحيلنا الشأن العام للمرض إلى كتاب سوزان سونتاغ "المرض كاستعارة"، الذي تقول فيه: "المرضُ هو الجانبُ المُظلمُ من الحياةِ، إنه مواطَنَة مرهَقة وشاقّة، فكلُّ شخصٍ وُلِدَ مواطنًا في مملكة الأصحّاء، وفي الوقت نفسه يولد مواطنًا أيضًا في مملكة المرضى".
ثمّة اشتباك بين رؤية أبو الغيط وسونتاغ، من حيث إن المرض له مجازاته، يُمكنها أن تتمثّل في علّة المجتمعات أيضًا. التغيّر الجوهري في حياة أبو الغيط جاء من خلال لحظة كونية (الثورة)، والتغيّر الآخر (المرض) دفعه إلى تناول جسده، مجازيًا، ليكون نموذجًا لتداعيات جيله عقب لحظة التغيير.
ليست مُجرّد يوميات بل قراءة للآخر ومكاشفة للذات
تأتي مقاومة أبو الغيط لمرضه على عكس صورة المرض المُستقرّة في ذاكرة الأدب، إذ يسير عكسيًا أمام كافكا، الذي أعطاه المرض إشارة بـ"إفلاسه العام". تُذكّرنا آليات دفاع أبو الغيط، بذات الآليات الحالمة التي يُحاول من خلالها خَلْقَ مجتمعٍ عادل، يقوم على الرحمة لا السلطة. يبدأ أبو الغيط مشروعَه المُقاوِم بأسلحة تعريفٍ لازمة، والعمل على إيجاد حلول واقعية مهما تفشّى المرض في جسده، إضافةً إلى محاولة عكس كلِّ تداعٍ بجسده إلى ذكرى عمومية. آلام الجسد تنقلنا إلى آلام الولادة لدى المرأة الحامل، الشعور بالتداعي يُعيدنا إلى أيّام ثورة يناير، وإلى حملات الاعتقال وضرب المتظاهرين.
عندما نصل إلى "صحوة ما قبل الموت"، تتجلّى ذروةٌ غيرية أبو الغيط في هذه اللحظة الفارقة، خلالها عاد إلى العمل مُتحاملًا، يريد أن يُنهي كلّ الأشياء المُعلّقة، يحارب المرض بأدوات لا تتوقّف عند ذاته بل تحملُ بُعدًا رساليًّا.
يقفُ الموت أمام الحياة، كلٌّ منهما متساوٍ في الاستقلالية، لكنّنا نُدرك الحياة أكثر لأن الآخر مجهولٌ. عند خبر رحيل أبو الغيط، تغيّرت جهات الرؤية فجأةً، رأينا أن الموت يتمتّع بانتقائية شديدة، وأن الضوء ليس دائمًا هو المركز.
* كاتب من مصر