أمّي تعزف الغيتار

21 ديسمبر 2021
جزء من عمل للفنّان الفلسطيني سليمان منصور
+ الخط -

نادرًا ما كان أحدنا يذكره، رغم أنّه حيّ وتصلنا بعض أخباره. حين سافر إخوتي، بحث الأوسط عنه والتقاه، تجنّبت السّؤال عنه، رغم إلحاحه كي يخبرني، إلّا أنّي صددته بتغيير الموضوع أو الادعاء بأنّ الاتصال انقطع أو أنّ الطفلة تحتاج أن أرضعها. وحين عاد وقد حمل إلى طفلتي هديّة منه، تركتها في الغرفة حيث كانت، لم ألمسها، لم أنظر إليها ولم أسأله إن كان قد سأله لِمَ فعل بنا ذلك. هو حيّ لكنّه ميّت في ذاكرتي وربّما في قلبي. ربّما كنتُ أنحاز إلى وجع أمّي الصّامت، لقد تركنا دونما رحمة.

سمّيتُ طفلتي الأولى باسم أمّي "عائشة"، وكنت أصرّ على جدّتي قبل وفاتها ألّا تناديها عيشة كما تنادي أمّي، فتصرخ في وجهي وقد غاظها انتقادي طريقة كلامها "شو ماله عيشة؟"، فأغمز لأمّي ونضحك. كبرتُ أنا وأمّي، وبعد أن أصبحت أمًّا شعرت أنّها ابنتي، صرت أنتبه إلى تفاصيلها: البقع البنيّة فوق جلدها الرّقيق، يداها تتغضّنان، وعيناها وقد خفّ نظرهما، مشيتها أبطأ وظهرها كأنّ قوسًا صغيرًا وُضع فوقه. حين أنظر إليها أشعر أنّها امرأة يمكن للهواء أن يتخلّلها. تشبه العذراء المعلّقة صورتُها في الكنائس، تلمع عيناها الملوّنة برقّة وتمنحها بشرتها البيضاء سحنة ملائكيّة. أنظر إليها وقد باتت حركتها بطيئة، وأذكر كيف كانت مليئة بالحركة، تعدّ المربَّيات وتبيعها.

كانت أحلى الأوقات وأنا أساعدها بعد عودتي من المدرسة. رائحة المربّى تفوح حتّى أوّل الشّارع، أركض نحو البيت كأني أسبح فوقها، أترك حقيبتي عند الباب وألحق رائحة القرنفل والمستكة، وحين أحرّك المربّى في القدر أقول لأمّي: "هل يمكن أن أتذوّقها؟ أمّي اتركي لي قليلًا هذه المرّة، وعدتِني المرّة السّابقة ووعدتِ أصدقائي بمربّى الفريز، ولكنّك بعتها كلّها... أمّي أرجوك قولي إنك وافقت. على فكرة، قالت معلّمة العلوم إنّ المربّى مفيدة للذكاء". تضحك أمّي وتكمل غنوتها وهي ترش بعض القرفة على المزيج الأصفر: "كانت حلوة كتير، وقفت على شباكها بكير، مرق الحلو لبّسها خاتم مرمر...".

وهناك عاشت ساحرة مملكتها بعرض الأفق، وفي أحد الأيّام بينما تدلّل طيرها المفضل غافلها وطار، وفي عنقه كان خاتم ملكها، طار بعيدًا بعيدًا، وحين تعب حطّ على غصن شجرة توت فوق تلّة بقرب بيت بعيد من كلّ البيوت في القرية المحاذية لمملكة السّاحرة، لكنّه ما كاد يرتاح حتّى هاجمه أحد الصّيادين، فرفرف بجناحيه فوقع منه الخاتم.

في تلك الأثناء، كان أحد شباب القرية يمرّ كعادته قرب بيت حبيبته التي كانت تنتظره قرب الشّجرة، ظنّ أوّل الأمر أنّ الخاتم حبّة توت، تناوله وحين تنبّه إلى أنّه خاتم من المرمر الأحمر، عزم على أن يقدّمه إلى حبيبته حين يلقاها وهذا ما كان. فرحت الصّبيّة بالخاتم أيّما فرح، تفحصته في إصبعها كلّ يوم، خبّأته عن عيون بنات الجيران الذين تكلموا كثيرًا عن الشّاب الجميل الذي قدّم لها خاتم مرمر أحمر. لم تدم فرحتها، فالسّاحرة كانت تبحث عن خاتم ملكها، وتوعدت من تجده عنده أن تحرمه أعزّ ما في حياته. وصلها أنّ شابًّا قتل طيرها العزيز وسرق خاتمها، فحوّلت نفسها إلى عجوز طاعنة، وتوجهت نحو القرية، هناك سمعت أنّ الشّاب يحبّ فتاة وقد أهداها خاتم زواج ثمينًا لم ير له أحد مثيلًا. قصدت السّاحرة بيت الفتاة التي قال أهل القرية إنّ الشّابّ أحبّها لأنّ صوتها عذب. وصلت وكانت صاحبة البيت تغنّي أغنية تحكي عن طائر سنونو حلّق في السّماء وظلّ يطير حتّى لم يعد يعرف كيف يعود إلى الأرض.

طرقَت الباب وطلبت شربة ماء، جاءتها الفتاة به، فرأت الخاتم في إصبعها، سألتها: هل تسكنين وحدك؟ "بعد قليل يعود زوجي، ادخلي يا خالة". جالت الساحرة بنظرها في البيت المتواضع، فقالت الشّابة وقد فهمت تعجّب المرأة من بساطة البيت: "زوجي رجل على باب الله، نحيا يومًا بيوم، لكننا سعداء. بعد زواجنا سكنا في هذا البيت الذي ورثته من والديّ، لقد أهداني خاتمًا ثمينًا فلم أطلب منه شيئًا غيره"، هزّت السّاحرة رأسها، اغتاظت من قصّة حبّها، فهي امرأة جميلة وثريّة، ولكنّها لم تجد رجلًا يحبّها أبدًا، لقد عاشت سنين طويلة وحيدة في ذلك القصر، لم تعرف لمن تهدي جمالها، ولم يُشعرها كلّ ما تملك من مال بسعادة تلك المرأة بحبّ رجل عاديّ. من عرفتهم من الرّجال كانوا يخشونها أو يتذلّلون لها من أجل مال أو منصب، وها هي فتاة فقيرة وساذجة تنعم بحبّ رجل لأنّ صوتها جميل. أيكون الحبّ بسيطًا إلى هذا الحد وهي محرومة منه؟".

حين عاد الشّاب إلى البيت، نادى زوجته، لم تكن تغنّي كعادتها، جال في البيت قليلًا وحين ردّت عليه، سألها: "ما بال صوتك يا عزيزتي؟". اقتربت تتناول منه ما جلب من أغراض، وحين لمست يده وجد نفسه محبوسًا في غرفة كبيرة في قصر كبير، صرخ يسأل عن زوجته، ناداه صوت السّاحرة: "لقد سرقتَ خاتمي وأنا سرقت حبّك... هنا لن تشعر بالوقت ولا بالملل، سيكون لك ما تريد لحظة يخطر ببالك، اقتربت السّاحرة من جبهته ومسحتها بيدها، ومنذ ذلك اليوم عاش في سجن كبير، ولم يرَ زوجته الجميلة أبدًا، ثمّ مع الوقت نسيها، وعاش مع السّاحرة في ذلك القصر البعيد. أمّا زوجته فقد ظلّت تنتظره في البيت سنة وراء سنة. وحين لم يعد توقّفت عن الغناء".

أَنظر إلى أمّي وأنا أمشط شعرها الكثيف الرّقراق بعد الحمام، تستر جسمها المتغضّن الأبيض بكفّها، تتفادى المرآة ونحن نخطو إلى غرفة النّوم، أسأل نفسي: "منذ متى وهي تفعل ذلك؟ ترى متى كانت آخر مرّة شعرت بجسدها؟ ينسدل قميص النّوم فوق كتفيها، أتذكّر وهي تحمل أكياس المونة كيف كانت كتفاها تتحمّلان الأوزان وكلام أهل الحيّ حولها: "راحت زوجة فلان وعادت زوجة فلان... لقد تزوّج عليها، مسكينة، أخت رجال، طفش منها، يجب أن تتزوّج، كلّا عليها أن تربي أولادها، هذا عريس غنيّ ستحيين مرتاحة، المرا لازم تقعد على ولادها، سحرتله التانية وغوته بالمال راح وما رجع".

تسألني إن كان أذان العصر قد رُفع، ترفع يديها للصلاة، أتفقّد ابنتي، تنام بعمق في هذا البيت الذي اشترته أمّي من أموال المربَّيات، وشهد زواجي وتخرُّج إخوتي وولادة عائشة، تترك أمّي صلاتها وتنادي عليّ: "تفقّدي قِدر المربّى يا غنوة... وحضّري الكعك، بقيت ركعتان". تعود أمّي إلى صلاتها، أحرّك المربّى بحذر، تبكي طفلتي، فأسمع أمّي تهدهدها: "يا طير السنونو سلّملي ع عيونه وقلّه إنّي بحبه وبعمري ما بخونه".


* كاتبة من فلسطين

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون