عاشت الناقدة والمترجمة المصرية أمينة رشيد (1938 – 2021) التي رحلت الجمعة الماضي، الحياة بوصفها سلسلة اختبارات لم يكن سهلاً اجتيازها؛ في التحرّر من طبقة لم تشعر بالانتماء إليها منذ كانت في التاسعة من عمرها، ومن ثقافة فرنسية شكّلت جداراً بينها وبين عروبتها ومصريّتها لكنها استطاعت بعد صراع طويل إزالته، ومن السلطة التي جابهتها مراراً، ودفعت تكلفة تلك المجابهة.
تقول في فيلم "أربع نساء من مصر" (1997) للمخرجة تهاني راشد، إنها تعرّضت للصدمة الأولى يوم رمتها إحدى جاراتها بحجر سنة 1967، بسبب توقيع جدها رئيس الوزراء المصري إسماعيل صدقي آنذاك معاهدة زادت من تبعية مصر لبريطانيا. يومها فقط أحسّت للمرة الأولى أن المعتدي على حق، وأدركت حينها الفتاة التي تنتمي إلى عائلة من كبار الملّاك معنى كلمة "استقلال"، والتي تعني بالضرورة خلاف مصالح عائلتها.
رشيد التي التحقت بقسم اللغة الفرنسية في "جامعة القاهرة" عام 1954، قرّرت في السنة نفسها أن تحسم قرارها وتعبر الطريق إلى الضفة الأخرى، حيث انضمت إلى الحزب الشيوعي المصري بعدما أدركت معنى الأسوار التي كانت تفصل قصر عائلتها عن المحرومين الذين يعيشون على مقربة منه، وأن تبرير أهلها بأن العالم ينقسم منذ الأزل بين أثرياء وبين فقراء عليهم أن ينتظروا الإحسان، لم يعد مقنعاً لطالبة مضت في تمرّدها إلى النهاية.
تركت العديد من المؤلّفات حول الأدب المقارن والرواية الحديثة، وترجمات عن الفرنسية
بعد ذلك، اصطدمت الراحلة بالحكم الناصري الذي أيّدت سياساته في الإصلاح الزراعي والتعليم المجاني رغم يقينها أنها لم تكن إجراءات جذرية، لكنها رفضت قمعه الذي وصفته بقولها: "المناضلون الذين اعتقلوا كانوا الوطنيين الحقيقيين. ونظام يعتقل وطنيين لا يمكن أن يكون نظاماً جيداً". موقف تزامن مع تطوّر وعيها الماركسي، وقراءتها كتباً مثل "عناقيد الغضب" لجون شتاينبيك، و"الأم" لمكسيم غوركي، ولشعراء المقاومة الفرنسية، ومنهم لوي أراغون وبول إيلوار وآخرون.
انتقلت لاستكمال دراستها في "جامعة السوربون" بباريس التي نالت منها درجة الدكتوراه في الأدب المقارن، وهناك عايشت أحداث ثورة أيار/ مايو 1968 الطلابية، وأيقنت أن التضامن بين الشعب الثائر يصنع المستحيل، ورغم أنها عملت باحثة في "المركز القومي للبحث العلمي" فرنسا حتى عام 1978، إلا أنها رأت أن مكانها بين المتظاهرين وسط ميادين القاهرة في الاحتجاجات التي سادت آنذاك ضّد نظام السادات بعد اتفاقية كامب ديفيد.
تم اعتقالها في أيلول/ سبتمبر عام 1981، مع لطيفة الزيات وشاهندة مقلد وصافيناز كاظم اللواتي قدّمن شهاداتهن حول السجن في فيلم "أربع نساء من مصر"، حيث قالت رشيد: "في السجن لم يكن لدينا ورق، كنا نكتب على أي شيء، ومنها أغلفة علب السجائر". مضيفة: "الليلة التي وصلت فيها، قضيتها في زنزانة السياسيّات. كل السيدات مكومات في حجرة صغيرة. صافيناز تخطب، وشاهندة صامتة والتي لا أعرفها إلا عن بعد؛ زوجها صلاح حسين قُتل أيام عبد الناصر على يد عائلة آل التقي الإقطاعية".
شاركت رشيد في مظاهرات دعم مقاومة الشعب الفلسطيني، وفي تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية والمجموعة المصرية لمناهضة العولمة، وحركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، ووضعت العديد من المؤلّفات منها "قصة الأدب الفرنسي"، و"تشظي الزمن في الرواية الحديثة"، و"الأدب المقارن والدراسات المعاصرة لنظرية الأدب"، وترجمت بالاشتراك مع زوجها الناقد سيد البحراوي كتاب "الأيديولوجيا وثائق في الأصول الفلسفية" لـ ميشيل فاديه، وروايتي "المكان" لـ آني إرنو و"الأشياء" لـ جورج بيريك، إضافة إلى مراجعة كتاب "النقد الاجتماعي.. نحو علم اجتماع للنص الأدبي" لـ بيير زيما وترجمة عايدة لطفي.