في عشرينيات القرن الماضي، كتَب ألبرتو جياكوميتي رسالة حماسية إلى والديه، يقول فيها "بالنسبة إلي، أجمل تمثال ليس يونانياً ولا رومانيً، وبالتأكيد ليس من عصر النهضة. إنه مصري" مشيراً إلى أن تميّز المنحوتات المصرية يعود إلى تناسب الخط والشكل وفق تقنية مثالية لم يتم تكرارها منذ ذلك الحين.
كان الفنان والنحات السويسري (1901 – 1966) لا يزال طالباً حين زار متاحف فلورنسا وروما والفاتيكان وشاهد قطعاً أثرية مثّلت الاكتشافات الأولى لأوابد الأسرة الثامنة عشرة، ومنها تمثال نصفي للفرعون أخناتون، الذي سيصبح موضوع إحدى لوحاته عام 1935.
حتى العاشر من تشرين الأول/ أكتوبر، يتواصل معرض "جياكوميتي ومصر القديمة" الذي افتتح في 22 حزيران/ يونيو الماضي في "معهد جياكوميتي" بباريس، ويضمّ لوحات ومنحوتات إلى جانب اسكتشات لم تُعرض من قبل.
مثّلت الحفائر التي عُثر عليها في تل العمارنة (بالقرب من مدينة المنيا) بداية القرن العشرين مؤثراً أساسياً في الأشكال التي رسمها ونحتها الفنان، وطبعت أسلوبه في فترة لاحقة، حيث تظهر استطالة الرأس والعنق النحيل والذقن البارزة والشفاه والآذان الكبيرة، مع امتلاء البطن وبقية أجزاء الجسد.
ربط جياكومتي بين التكوين النحيف للجسم وطبيعة حركته، حيث رأى أنها تعبّر عن جوهر الحياة المعاصرة بما تحويه من توتر وصراع، وباتت الأشكال الخطّية الرفيعة تهيمن على أعماله المتأخرة التي ركّزت على اغتراب الإنسان وضياعه في وجود لا يحمل غاية أو معنى.
واستعار أيضاً القاعدة المستطيلة لتماثيله التي قام باستنساخها على نحو متطابق، ثم انطلق في بحثه عن معادل بصري موازٍ يستند إلى شعور بمثالية الجسد وبدئيته، قبل أن يطوّره باتجاه أكثر تجريدية انطلاقاً من منحوتته "مكعب" وصولاً إلى تمثال نصفي يحاكي صديقاً له، ونفّذه قبل أسابيع قليلة من رحيله، ولم تغب الملامح المصرية عنه.
لكن التمثال الأول الذي أثار اهتمام جياكوميتي، كما تظهره الرسوم التخطيطية التي رسمها بعد زيارته إلى أقسام الحضارة المصرية في المتاحف الإيطالية، كان مصنوعاً من الغرانيت لكاتب فرعوني يخطّ كلماته على لفافة من ورق البردي، وتمّ نحته قبل ثلاثة آلاف وخمسمئة عام.
أما بالنسبة إلى النحت، فإن أقدم تمثال يحيل إلى تلك العلاقة مع مصر القديمة صنعه عام 1927 من مادة الجص، ويمثّل أمّاً جالسة في ملامح تشبه ملكة مصرية حكمت في منتصف الألف الثالث قبل الميلاد، كما تعرض منحوتة لعربة قتال مصرية ذات عجلتين نفّذها عام 1950.
جياكوميتي الذي لم يزر مصر في حياته مطلقاً، أسّس رؤيته الجمالية بناء على معايير فرعونية عكست فلسفات ومعتقدات حول توازن الجسد وعلاقته مع الطبيعة.
من جهة أخرى، تحضر تأثيرات أيقونات الفيوم حيث رسم جياكوميتي عشرات المخططات معظمها لوجوه نسائية كان فيها مفتوناً بتلك النظرة الثابتة الثاقبة التي أبدعها الرسامون المصريون الأوائل في تلك الأيقونات، والتي ترمز إلى الهشاشة العاطفية وتعقيد النفس البشرية.