بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، بدأ ألبرتو جياكوميتي مراجعات عميقة حول تجربته قادته إلى إعادة التفكير في علاقة الفن بالواقع، كما ظهر في منحوتاته ورسوماته آنذاك، وانعكس ذلك في كتاباته وجملة رسائل تبادلها مع عدد من الفنانين، منهم بابلو بيكاسو.
اخترع الفنان السويسري (1901 – 1966) في تلك الفترة أشكالاً تحاكي الألعاب أو تستعيد مشاهد من الطبيعة، التي تحيل إلى صدمة ما بعد الحرب، حيث تعاظم الإحساس بالاغتراب لديه بسبب تساؤلاته عن المصير المفزع الذي ينتظر إنسان القرن العشرين، فرسم أولى اسكتشاته لشخصيات هزيلة طويلة ذات رؤوس بارزة.
"ألبرتو جياكوميتي.. شجرة كامرأة، حجر كرأس" عنوان المعرض الذي افتتح في "معهد جياكوميتي" بباريس نهاية حزيران/ يونيو الماضي ويتواصل حتى الثامن عشر من الشهر المقبل، ويضمّ مجموعة مختارة من الأعمال التي تجمع بينها ثيمة واحدة، هي المناظر الطبيعية.
لم تكن فترة ما بعد الحرب هي المرحلة الوحيدة التي شكّلت فيها الطبيعة الهاجس الأساسي لدى جياكوميتي، حيث يبيّن المنظّمون أنه كان منشغلاً بها في فترة شبابه، حيث قضى سنوات طويلة في جبال الألب بموطنه، لكن التطورّ الذي طرأ لاحقاً تمثّل بتكويناته التي اعتنت بالتكافؤ بين الشكل البشري والطبيعية.
أبرز عملين في هذا السياق عرضهما عام 1950، وهما "الغابة" حيث وضع على قاعدةٍ واحدة شخصيات ورؤوساً بمقاييس مختلفة، مستخدماً البرونز في تنفيذ منحوتته، والبقعة الخالية من الأشجار في الغابة" التي صنعها من البرونز أيضاً وتقترب من المنحوتة السابقة.
تشبه النساء الواقفات في كلا العملين أشجار التنوب، أحد أنواع الصنوبريات، التي تنتشر في وادي غراوبوندن بالألب، وتذكّر الرؤوس بالحجارة التي تتماثل مع الجبال الصخرية، أحد أبرز المناظر التي شكّلت ذاكرة جياكوميتي الأولى.
ويُعرض التمثال الذي سيكون نموذجاً أولياً لمعظم شخصياته ما بعد الحرب، وهو "المرأة ذات العربة" ويصوّر صديقته الإنكليزية إيزابيل كما تخيّلها من ذاكرته منذ عام 1945، ووضعه على قاعدة تعزله عن الأرض، وسيكرر الأمر نفسه كما في عمل "أربع نساء" أو "ثلاثة رجال يسيرون" أو يضع شخصياته مدمجة في أقفاص.
تمثّل هذه الأعمال مراجعة جذرية لانتماءات جياكوميتي السوريالية من خلال انعطافه إلى الوجودية، حيث يتحوّل الجسد الذي امتُهنت كرامته، إلى خيط يحيط به خراب العالم في محاكاة لرحلة بحثٍ انبثقت من الطبيعة، وتشخّصها كائنات تجسّد الواقع، لكنها لا تشبهه.