رغم اهتمام الأوساط البحثية التركية بكتاب "الأتراك في مصر وتراثهم الثقافي" للباحث والأكاديمي التركي، أكمل الدين إحسان أوغلو، الصادر بالتركية عن مركز "إرسيكا" عام 2006، فالنسخة العربية التي صدرت عام 2011 بترجمة صالح سعداوي عن "دار الشروق" لم تحظَ بالاهتمام نفسه، رغم أهميته ووصف كثير من المؤرّخين الأتراك له بالأوّل في مجاله. ولعلّ صدور النسخة العربية سنة انطلاق الربيع العربي هو السبب الأبرز لعدم إثارة الكتاب انتباه الباحثين، إضافة إلى تدهوُر علاقات كثير من الأنظمة العربية مع تركيا، وبالأخصّ بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013.
يعتمد أوغلو في كتابه على فكرة أساسية، هي نشأة الثقافة العثمانية في مصر وتطوُّرها في عهد الوالي محمد علي باشا. ويشير إلى أنَّ موضوع كتابه يتماسّ مع حياته الشخصية، إذ وُلد في القاهرة عام 1943 لأب تركي وأم مصرية، ونشأ نشأة قاهرية في أجواء عثمانية. وعلى عكس كثير من المؤرّخين الذين يذهبون إلى أنّ علاقة الأتراك بمصر ترجع إلى دخول العثمانيّين إليها عام 1517، يُرجع فريق آخر هذه العلاقة إلى أقدم من ذلك، وعلى رأسهم أوغلو، إذ يرون أنّ حكم مصر لم يخلُ منذ العهد الطولوني (868 - 905) من حاكم تركي الأصل أو نشأ وتربّى على مفهوم الدولة التركية وثقافتها، باستثناء العهد الفاطمي.
لعبت الكتب التركية دوراً كبيراً في نشر ثقافة العثمانيين
يتتبّع أوغلو في كتابه الوجود الثقافي للأتراك في مصر، ويوضح أنّ المصريين قبل العهد العثماني كانوا يسمّون العثمانيين باسم "الروم" بينما كانوا يسمّون المماليك بـ"الترك". تغيّر استخدام المصريّين لكلمة "تركي" بعد ذلك وصارت بمعنى "عثماني"، ويرى أوغلو أنّ هذا الاستخدام قد استمر حتى أوائل القرن التاسع عشر، وصولاً إلى عهد محمد علي الذي تغيّرت فيه تلك التسمية وصارت كلمة "عثماني" تحمل معنىً ثقافيّاً بدلاً من المعنى العرقي، وتطلق على أعراق متباينة تشترك في تكوينها الثقافي، وتقع تحت الحكم العثماني.
بالتأكيد، لم يشمل هذا التغيُّر مسألة التسمية فقط، فرغم أنّ أوغلو يُرجع علاقة المصريين بالأتراك إلى ما قبل العثمانيين، فإنّه يؤكد أنّ الثقافة العثمانية لم تترسخ في مصر إلّا في عهد محمد علي، أي بعد حوالى ثلاثة قرون من دخول العثمانيين إلى مصر. ورغم توتُّر العلاقات السياسية بين الباشا والباب العالي وتمرُّده على الدولة العثمانية، يرى أوغلو أنّ العلاقات الثقافية بين القاهرة وإسطنبول قد انتعشت في ذاك العهد كثيراً. واتّخذت السراي في مصر من نمط الحياة وقواعد البروتوكول بإسطنبول مرجعاً لها، وكان أسلوب المعيشة التركي بالمعنى الكلاسيكي (ألاتوركا) هو المثال المحتذى بين أفراد الطبقة العليا في القاهرة.
وبحسب الإحصائيات التي اعتمدها أوغلو في كتابه، وصل عدد الأتراك المهاجرين إلى مصر إلى عشرين ألفاً في القرن التاسع عشر. وقد اعتمد الوالي عليهم في شؤون الإدارة، وفي تعزيز الثقافة التركية العثمانية في مصر، بتدريس الكتب التركية في المدارس المقامة حديثاً (إلى جانب تعليم اللغتين العربية والفارسية)، ونشر الموسيقى التركية في الأوساط الاجتماعية المحيطة بالسراي.
عاش عشرون ألف تركي في مصر خلال القرن التاسع عشر
ويرى أوغلو أنّ التقاليد الموسيقية التركية قد أثّرت كثيراً في أسلوب تقديم الحفلات الموسيقية. ومن أبرز الشخصيات الموسيقية العثمانية التي أثّرت في الموسيقى المصرية، طاطيوس أفندي، وعاصم بك الناياتي، خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. وقد ظهر هذا التأثّر في أغاني موسيقيين ومطربين مصريين معروفين، مثل عبده الحامولي وسلامة حجازي ومنيرة المهدية، بل محمد عبد الوهاب وأم كلثوم أيضاً، حتى منتصف القرن العشرين.
يخصّص أوغلو الجزء الأكبر من كتابه لدور الكتب التركية التي نُشرت في مصر بفضل المطابع التي أنشأها محمد علي، وهي "مطبعة بولاق"، و"مطبعة سراي" الإسكندرية، و"ديوان الجهادية". ويذكر الباحث أنّ عدد الكتب التركية التي صدرت في مصر بين عامي 1798 و1997 بلغت 534 كتاباً، وأنّ أغلب هذه الكتب صدر خلال عهدَي محمد علي في القاهرة (1805 - 1848) والسلطان عبد الحميد في إسطنبول (1876 - 1909). ويُفرّق بين الهدف من طباعة هذه الكتب في العهدين المذكورين. ففي عهد محمد علي كانت هذه الكتب تخدم نظامه الحديث، أمّا في عهد عبد الحميد، فقد أصدرت القسم الأكبر منها جماعة "تركيا الفتاة" ورجالها المعارضون للسلطان ممن أقاموا في مصر. ويلاحظ أوغلو وجود ارتباط واضح بين رجال "تركيا الفتاة" وعلماء الدين في مصر، وأنّ أغلب الكتب التي نشروها كانت دينية، وتتعلّق بمسألة الخلافة تحديداً، بهدف دحض شرعية حكم السلطان عبد الحميد الثاني.
ويسلّط الباحث الضوء أيضاً على دور الترجمة في ترسيخ الثقافة العثمانية في مصر. ففي عام 1835 أنشأ محمد علي مدرسة للمترجمين، كخطوة في طريق تحديث الدولة، وكانت برئاسة رفاعة الطهطاوي، وعُرفت فيما بعد باسم "مدرسة الألسن". وأنشأ بعد ذلك غرفة للترجمة عام 1841، للإشراف على أعمال الترجمة الجارية. وانقسمت الترجمة في ذاك العهد إلى ترجمات بين التركية والعربية والفارسية، وترجمات عن اللغات الغربية.
وإلى جانب اهتمام الوالي بترجمة كتب العلوم والشؤون العسكرية، يعرض الباحث أيضاً أبرز الكتب الأدبية العثمانية التي اهتمّ محمد علي بإصدارها في القاهرة. فمن بين 253 كتاباً طُبع في "مطبعة بولاق"، يوجد 57 كتاباً أدبيّاً، منها 28 ديواناً شعرياً لكبار الشعراء العثمانيين من أمثال فضولي، ونفعي، ونديم، والشيخ غالب. واللافت للانتباه في مسألة تعزيز محمد علي للثقافة العثمانية في مصر، أنّه عندما كانت اللغة العربية والفارسية لغتَي الثقافة عند النخبة العثمانية في إسطنبول، كما هو معروف، كانت التركية هي اللغة التي تستخدمها النخبة في قاهرة محمد علي. ويشير أوغلو إلى أنّ استخدام التركية بدأ يتقلّص في مصر بعد الاحتلال الإنكليزي عام 1882.
تعدّدت مجالات تأثير الثقافة العثمانية في المجتمع المصري حتى وصل هذا التأثير إلى داخل مطبخ السراي المصري أيضاً، واتّسع نطاقه بعد ذلك بين طبقات اجتماعية مختلفة، كما يرى أوغلو، ويرى أن أطعمة تركية دخلت بين أطعمة الحياة اليومية في مصر، مثل: الكباب، والكفتة، والشيش طاووق، والبُغاشة، والبقلاوة. وقد حظي المطبخ العثماني بأهمية كبيرة في مصر، والدليل على ذلك ترجمة الكتاب التركي "ملجأ الطباخين" إلى العربية وصدوره في طبعات عديدة منذ عام 1887 حتى 1915.
ورغم اعتراف أوغلو بأنّ الثقافة التركية في مصر قد تأثّرت كثيراً بعد وضع مصر تحت الحماية البريطانية عام 1914، وقطع آخر رباط رسمي بين مصر والدولة العثمانية، وأنّ أسلوب حياة أفراد الطبقات العليا قد تحوّل من النمط التركي إلى الإفرنجي، فهو يرى أنّ أثر الثقافة التركية في مصر قد واصل الكشف عن نفسه في مجال آخر، وهو فن الخط، وأنّ تأصُّل مدرسة الخط العثمانية في مصر قد تحقّق في عهد الملك فؤاد، الذي جلب الخطّاط العثماني عزيز أفندي إلى مصر عام 1922 بهدف نسخ المصحف الذي عُرف بـ"نسخة الملك فؤاد"، وكلّفه بعد ذلك إقامة مدرسة للخط في القاهرة، عُرفت باسم "مدرسة تحسين الخطوط الملكية".
وممّا يلفت الانتباه في الكتاب أيضاً، أنّه إذا كانت تركيا تحتضن الآن عدداً كبيراً من معارضي الأنظمة العربية، فإنّ مصر قد احتضنت العديد من الشخصيات التركية المعارضة التي عاشت فيها لسنوات، سواء من معارضي السلطان عبد الحميد أو من معارضي أنقرة بعد تأسيس أتاتورك للجمهورية عام 1923. ويتناول أوغلو في كتابه حياة هؤلاء، ويخصّص فصلاً للجرائد والمجلّات التركية التي صدرت في مصر، منذ إصدار جريدة "الوقائع المصرية" عام 1828 باللغتين التركية والعربية (عمود بالتركية على اليمين وعمود بالعربية على اليسار، قبل أن تصدر باللغتين منفصلتين) وبلغ عددها 64 جريدة ومجلّة تركية. وكان لأعضاء "تركيا الفتاة" الأثر الأبرز في هذا السياق.
لعلّ أهم ما يميّز هذه الدراسة أنّها تحاول الكشف عن الخلفية الثقافية العثمانية في مصر التي استمرت حتى خمسينيات القرن الماضي، وأنّها اعتمدت على الوثائق التركية والعربية في المقام الأول، بعيداً عن الآراء الشخصية التي وردت في مذكّرات قناصل إنكلترا وفرنسا، مثلاً، حول تلك الفترة، والتي ما زال يعتمد عليها كثير من الباحثين العرب.
وأخيراً، إذا كانت هناك العديد من الدراسات التي سلّطت الضوء على دور محمد علي في بناء مصر الحديثة وجيشها، فإنّ دراسة أوغلو تكشف عن تغلغل الثقافة العثمانية في الحياة الاجتماعية والثقافية في مصر، وكيف تطوّرت حتى شكّلت ما يمكن تسميته "العثمانية المصرية".