صاحب سخرية محبّبة، وابتسامة دائمة، وبديهة حاضرة وحيوية، بائنة بالرغم من أعوامه التي تجاوزت الخامسة والثمانين. التحق أغيم جاكوفا Agim Gjakova بكلّية الفلسفة في "جامعة بلغراد" في النصف الثاني من الخمسينيات، لكنّه أُجبر على قطع دراسته، حيث حُبس وعُذّب في السجون اليوغسلافية بتهمة الانتماء إلى تنظيم معارض من ألبانِ كوسوفو. سيُجَرَّد، بعد ذلك، من الجنسية اليوغسلافية ويُبعَد إلى ألبانيا بصفة نهائية في عام 1960.
في ألبانيا وجد نفسه رهيناً لمحبس بلا جدران، قوامه الرقابة الأمنية اللصيقة التي لازمته قرابة ثلاثة عقود وضربت حوله العزلة والإهمال، بتهمة "الضلالة" الإيديولوجية. وبعد عامين من الانتظار، سُمح له بإكمال دراسته في كلية الآداب بـ"جامعة تيرانا"، ثم عمل محرّراً ومترجماً في "وكالة التلغراف الألبانية"، ثم بالتدريس، كما امتهنَ كتابة السيناريو.
صنّفت السلطات روايته "البحث عن الحقيقة"، الصادرة في تيرانا عام 1976، بأنها عملٌ ضدّ التاريخ ومليئة بالتحريض، وُمنع من نشر مجموعته الشعرية "الجذور تتجدد: أرجمُ الأحلام بالحجارة"، وذلك لمعارضتها إيديولوجيا الحزب الحاكم.
أصالة صوت أغيم جاكوفا وقوّة أشعاره لم تشفعا له أمام السلطات التي لم يكن يتملّقها، فوضعته خارج حيّز اهتمام المؤسّسة الرسمية وفعاليّاتها الثقافية، فبات لا يُدعى للمشاركة في التظاهرات الأدبية ولا إلى محافل التكريم، وظلّ حبيساً لسياج العزلة والإهمال نفسه.
أشعاره ذات عمق فلسفي تحمله لغةٌ مغامِرة، وتتناول مواضيع وجودية مثل الحياة والموت والسلطة والعدالة والحرية والضمير والحب والكراهية والكون.
أغيم جاكوفا الذي ولد في في 11 تمّوز/ يوليو 1935 في مدينة كافايا بألبانيا، وأكمل الدراسة الابتدائية والثانوية في جاكوفا، وعمل مدرّساً (1952 - 1954)، عاد بعد قرابة الأربعين عاماً إلى كوسوفو في 1999، إثر انسحاب الجيش الصربي مع تدخُّل قوّات "حلف شمال الأطلسي".
بعودته إلى كوسوفو، تحرّر أغيم جاكوفا من محبس الرقابة الأمنية وقبلها من السجون المتعدّدة التي عرفها، ليُقيم مجدّداً في فضاءاته الإبداعية اللامتناهية، يجول فيها مثل نسرٍ لا يكلّ من التحليق رغم تقدّمه في العمر، يستكشف قِمماً بعيدة واحدةً تلو الأخرى. إلى جانب أعماله في الشعر والرواية والمقالة، أسّس أغيم جاكوفا فرعاً لـ"نادي القلَم" في كوسوفو عام 2004، وعمل رئيساً له لسنوات.
خلال مسيرته التي تمتدّ على نحو ستّة عقود، أصدر الشاعر الكوسوفي أغيم جاكوفا (1935) نحو خمسة وعشرين كتاباً في الشعر والرواية والقصص والمقالة، تُرجم بعضها إلى لُغاتٍ مثل الإنكليزية والفرنسية. صدر له في الرواية: "البحث عن الحقيقة" (1976)، وفي القصّة: "منزل على متفرَق طُرق" (2003)، وفي الشعر: "يقولون بأن هنالك سلام في العالم" (1962)، و"أَرشُقُ الأَحلامَ بالحجارة" (1992)، و"مُغادرة حُلم" (2019).
هنا ترجمةٌ لقصائد مُختارة من ديوانه "مَلْحَمَةُ الأجنحة":
اعْتِمَادِيَّةُ الحُبّ
صَوتٌ كَلَّمَنِيْ
النَذَالَةُ رَائِعَةٌ
كُلُّ عَمَلٍ يَنْتجُ منْهَا
يُطِيْلُنِي مِقْدَارَ كَفٍّ
يُشَبِّهُنِي بالقَدَاسَةِ
بَعْدَ أنْ قَرَأْتَ غُمُوضِي
فُتِحَ لِيَ سَهْلُ الحُلُمِ
رَدِيْفُ الأفُقِ
عَلى جَبِينِي عُلِّقَتْ بِطَاقَةٌ
مُجَانِسُ النِّفَاقِ
حِيْنَمَا نَظَرْتُ إلَى نَفْسِي بَعْد أَلْفَ عَامٍ
ضَحِكْتُ
مُحَالٌ
أَنْ تَكْتُمَ الحقيقةَ في قَبْضَتِكَ
وأَنْ تُسَمِّيهَا كذْبَةً
بَعْد أَنْ رَفْرَفَتْ مثل عُصْفُورٍ غَادَرَ قَفَصَه.
■ ■ ■
نَكْث
تَنْتَظِرُ القُبُوْرُ المَكْشُوْفَةُ رُوَّادَهَا
لَا أَحَدَ مِنْهُمُ يُفَكِّرُ فِيْ ذَلِك
أَدْنُوْ مِنْ تَابُوْتٍ وَأُغْلِقُ غِطَاءَهُ
أَسْخَرُ مِنْ ثَلَّاجَةِ المَوْتَىْ
مِنْ صَنْعَتِهَا
بِتَدْوِيْنَاتٍ عَلَى سِيْرَةٍ ذَاتِيَّةٍ مُشَقَّقَةٍ
ادْفَعْ قَلِيْلَاً أَيُّهَا الْرَّجُلُ
يُدفَنُ الأَمْسُ
هَلْ يُمْكِنُنِيْ دَفْنُ الذِّكْرَيَاتِ فِي الأرْضِ؟
■ ■ ■
الخُرَافَةُ الثالثة
أَرَدْتُ أَنْ أَشْتَاقَ
على مَسَارَاتِ الدَّمْعِ
وأَنْ أُفَسِّرَ مَغْزَى الكَوْنِ
كُلُّ مَسَارٍ أَوْشَكَ أن يُفْضِيَ بِي إلَى هَاوِيَةٍ
وكُلُّ هَاوِيَةٍ سَدَّتْ أمَامِي مَسَارَاً
كَتُومٌ كَتُوم
تَبَخَّرَ َضميريْ المُتَحَجِّرُ
اِبْتِسَامَةُ صَقِيْعِيَّةٌ لِلَا شَيءْ
ولِكُلِّ شَيءْ.
■ ■ ■
نسخةٌ عَنِ النَّفْسِ
أَشْبِهُ كُلَّ أَحَدٍ ولا أَحَدَ يُشْبِهُنِي
أَشُكُ في عَدَدِ مَرَّاتِ عُزُوفِي عَنْ أَنْ أَكُوْن نَفْسِي
أَكُونُ حداثوياً
ما يُسَمَّى بالحداثوي
ليس حداثوياً إلى الحَدِّ
المُسْتَوْفِي لِكُلِّ بَادِئَاتِ - الحَدَاثَةِ
ثُمَّ أُصْبِحُ قَوْمِيَاً وسُرْعَانَ مَا أرُوْغُ إلَى العَالَمِيَّةِ
وأَنْكُصُ تَمَامَاً، ضِدَّ الْقُوْمِيَّةِ
لِأَخْرُج عَلَى سَاحِلِ وَعْيِيَ
الَّذِي يَحْكُمُه الذُّبَابُ.
■ ■ ■
مَهْزَلَة
رَأَيْتُ الأَرْضَ في عَتْمَةِ السَّحَرِ
بينما يَحْسِدُوْنَنِي وقد نَبَتُّ مِثلُ الهَيْكَلِ العَظْمِيِّ للتَوْبَةِ
أَتَسَكَّعُ فِي الدِّمَاغِ عَلَى هَيْئَةِ صَلَاةٍ
مِثْلُ الخَطِيْئَةِ المُنْجِيَةِ
مُتألِّمٌ مُوْغِلٌ فِي الأَلَمِ وَمُعَاضِدٌ للألَمِ
غَيَّبَنِي الحُزْنُ في كَرْمَةٍ نَدِيَّة
عندما يُحِبُّونَ شَخْصَاً بغيضاً
يَجْعَلُونَهُ بالحُبِّ وَضِيْئَاً.
■ ■ ■
مُذْهِلْ
لو أصبحتُ تمثالاً
أَعْلَمُ بِأَنَّ الكِلَابَ سَتَأتِي
لِتَتَبَوَّلَ عَلَى أَقْدَامِي.