أطفال الندى (6): هكذا وجدنا أنفسنا في الغابةِ الحَجرية

18 يونيو 2022
في حركة متواصلة حول رقعة من الأرض اسمها فلسطين
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


هكذا وجدنا أنفسنا في الغابةِ الحجرية... كلُّ شيء مسكونٌ إلى درجة أنّ أي حركة يمكن أن توقظَ أبا الهول، وتجعل الحجارة تتكلم، والشجر ينحني ليمسكَ بأطرافِ ثيابنا، والتراب يتنفس.

وتعجبُ أمّي من قوّةِ قلبها كيف عاشتْ في ذلك البيت المنعزل على طرف أمّ الزينات في وادٍ موحش أسفل القرية، يستطيع الإنكليز أن يطلّوا عليه وعلى ما حوله، ويشاهدوا العمّ محمود وهو يخرج من بيته حاملاً شيئاً ما، ليلقيه بين الشجر، فينحدرون ببطءٍ، ويصلون إلى المكان، فإذا الشيء بندقية، وإذا بهذه البندقية تسحب الوالد إلى حيفا، ليتعرّض للتحقيق والضرب... ليدلّهم على صاحبها. ولا يعرفون حتّى هذه اللحظة: "لقد ظلّ يحتفظ بها... فلا هو ذهبَ مع الثوّار ولا هو تخلّصَ منها".

هكذا تتكرّر الحكاية. ولكنّني لا أفكّر بها، بل في المكان... في تلكم الأجمة التي أُلقيتْ فيها البندقية وذلك المرتفَع الذي أطلّ منه جنود الإنكليز وفي كثافة الشجر، وهل كان الوقتُ صباحاً أم مساءً؟ إنني أفكّرُ بالمكان الذي تنبضُ فيه الحجارةُ وتسيلُ فيه مياهُ العين... وتصعد فيه الطرقاتُ الوعرة، ففي كلّ قصةٍ وحديثٍ، يتحرّكُ الأشخاصُ في مشهدٍ غامض وتخترق القصّة والحدث صيافيرُ وزيتونٌ وسناسل، وأصوات سكون يكاد يكون مطلقاً. 

لم ينتقل إليَّ الضجيجُ ولا صوتُ آلاتِ الدراسة، ولا مشهدُ الجموع الفلاحية التي جمعتْ الزيتون وما زالتْ تجمعه منذ آلاف السنوات، ولا حتى الأعراس التي يتحدثون عنها... إنّ ما انتقلَ إليَّ هو السكونُ نفسه ذلك الذي يخيّمُ الآن على أحراج الزيتون.

أفكّرُ بالمكان الذي تنبضُ حجارته وتسيلُ فيه مياهُ العين

ويتحرك المشهدُ حين تقول أمّي: "كان الثوّار يمرّون علينا فأعدّ لهم طعام العشاء..."، فأتخيّل مجموعة من الرجال الغامضين على ظهور الخَيلِ يستريحون قليلاً في هذا الوادي البعيدِ عن القرية وعن الطرق الرسمية، ثم يجمعون أنفسهم وينطلقون إلى حيث لا أدري، وتُكمل الكتبُ بقيةَ القصص أو تحاول ذلك. ولكنّني لا أجد أمّي في هذه القصص... ولا أجدُ قريتنا بل لا أجد غير أسماء... أسماء لا ينبض فيها حجر، ولا يتوعّرُ فيها طريق، ولا يكون فيها وقتٌ ولا دخانٌ ولا عشاءٌ ولا سؤال عن بندقية.
 
إن تفاصيلنا لم تُكتب حتى الآن. ألم أقل كأننا لسنا من هذا العالم؟ إننا كائنات أخرى انفصلتْ عن التراب، وتزاحمتْ حولها الأبجدية وحكايات الجنّ والأماكن المسكونة.

لم يكن ذلك اليوم الذي جاء فيه الإنكليز وأطلّوا على الوادي ساكِناً بالطبع، بل كان يضجّ بالحركة، ففي ذلك النهار الطويل كان أبي يواجه "صوصة" في حيفا، وكان بعض أبناء العائلات المحظوظة يقفون في "مطار اللدِّ" بانتظارِ الطائرة التي ستأخذهم إلى كيمبرج لإتمام دراستهم. وكانت معسكراتُ المجنّدين قربَ براغ في تشيكوسلوفاكيا تعجّ برجال العصابات الصهيونية وضباط من جنسيات أميركية وروسية للتدريب... وكان "مطار رياق" اللبناني في البقاع مشغولاً بإعدادِ الأضواء اللّازمة لهبوط الطائرات ليلاً، وإعدادِ الشاحنات لنقل الأسلحة المُقبلة إلى المستعمرات اليهودية.

العالمُ كلّه خارج حبّات الجوز منهمكٌ في حركة متواصلة تتجمّع خيوطُها حول هذه الرقعةِ الصغيرة من الأرض التي اسمها "فلسطين"، المسكونة بحجريتها وبأبي الهول القابع وهو يلقي أسئلتهُ غير المفهومة على فلاحيها ولا أحد يُجيب... لا الشيخ حمزة ولا أبو درّة... ولا الحاج القطروز الذي ظلّ آسفاً لأنه ترك الدراسة مبكّراً وقطرزَ وراء الحرّاثين... ولا أمّي نفسها التي شاهدتْ مؤونة بيتها لموسم كامل تضيع في الشيد والتراب.

كانوا يسمّونها القبّانيات فحسب، ويعرفون أنّ يهوداً غرباء غير يهود البلاد يسكنون فيها خارج أحلام الفلاحين وترابهم وملحهم ومائهم... خارج الفتن وصراع العائلاتِ وهموم تعليم الابن الأكبر... كانوا يسكنون فحسب، غامضين لم يتّضحوا بعد. أمّا الواضح فكان هذا الطوق الإنكليزي الذي يأتي بين فترة وأخرى.

يقول أبي: "كان معهم جنودٌ سودٌ من السنغال، وهنودٌ من السك، ويوماً التقيتُ بواحدٍ منهم بلحية كثيفة جالساً على حجر فسألته عن دينه، فقال: سك والحمدُ لله". ويضحك والدي. كيف يكون من السك ويحمد الله؟ جنديّ مجهول... كما هم المئاتُ الذين يرقدون الآن تحت نصبٍ في مقبرة نظيفة مزروعة بالأشجارِ ومعتنى بأعشابها على أطراف بغداد... مئاتٌ جمعوا تحت نُصُب واحد كُتب عليه بالإنكليزية أنّهم ضحَّوا بحياتهم في سبيل المملكة! أيّ مملكة هذه التي جاء هؤلاء الهنود إلى بغداد ليضحّوا من أجلها؟ لا بدّ أن ذلك كان في زمن قديم لا حدودَ لأطرافهِ. مئات الهنود يرقدون الآن مكوّمين أو رماداً تحت هذا العمود الحجري في بغداد.

إننا كائنات أخرى انفصلتْ عن التراب، وتزاحمتْ حولها الأبجدية وحكايات الجنّ


وعلى الأنصاب الحجرية أقرأُ كلمات محفورة في الرخام..." زوجتك المُحبّة التي لا تنساك"..."أيّها الموتُ... أينَ لسعتك القاتلة؟ أين انتصارُك؟"... أبياتٌ من الشعر الإنكليزي كتبَها طبيبٌ اكتشف علاج الملاريا، مزهوّاً بانتصارهِ، فما الذي جاء بها هنا؟ وأيّ غباء جعل هذه الزوجة أو الأمّ أو الحبيبة تنقشُ هذين السطرين المتعلّقين بالانتصارِ على البعوض... على شاهدة ضائعة تحت شمس الشرق؟ أكانت تظنّ أنهما كُتبا لرثاء الشهداء أو لتمجيد المحاربين؟ يا لهذا الحُزن الذي صعد مثل غيمة وبلّلَ وجه الأرض قبل خمسين عاماً أو أكثر، وتبدّدَ عندما تبدّدَ من يحمله وما عاد حزناً!

إنّ الأحفادَ الذين يلمحون طرفاً من هذه الغيمة في سكون الجدّة أو الأمّ، هم أقلّ الناسِ احتفالاً يأخذ نصيبهم من هذا الحزن أو هذه المشاعر بالزهو، فلهم سيكون نصيبٌ في حلّ الألغاز ومواجهة مسائل الوجود بنضارة غير مسبوقة، وعليهم أن ينتظروا قبل الدخول في هذا الليل أو عليهم أن يحتفظوا بشيءٍ غامض لا أدري ما هو... قد يكون هذه اللامبالاة.

وأحسب بدقّة كيف أنّ جندياً يموت في الحرب الأولى، سيعيش حسرةً في قلب أشخاص قريبين منه... ولكنْ حتّى هؤلاء مصيرهم أن يموتوا... فما الذي يبقى إذن؟ أهو حزننا الخاصّ هذا الذي يرافقنا الآن أم هو شيء ورثناه من الماضي... ماضي الأمّ والأب... وما خلفَهما من آباء وأجداد ضغطوا بكلّ ثقلهم ليظلّوا أحياءً في هذه المرارة غير المفهومة؟ سيقول والدي: "أنحن أصحاب أحزاب وتحزُّبات وما زالت الضباعُ تأكل جثث رجالنا؟". ويبدو لي هذا التعبير بليغاً، أو شبيهاً بحكمة تُقال لترسم سلوك حياة كاملة. وما بعد هذه الحكمة هو الصمت... الصمتُ إلى الأبد. 

الإنكليز... والسناسل... والقبّانيات... والروحة... أي كلّ ما هو غير موجود في الكتب، ولا تستطيع التقاطه إلّا كما تلتقط ذكرى ليلة شتائية بعيدة، أو حادثاً من حوادثِ المطر في طريق ما... لا تدري أين كان. لماذا نحن مجهولون إلى هذه الدرجة؟ هذا الذي أحبَّ جنّيتهُ إلى أن قوّضتْ حياته وعقله وما زال ساهماً يسمعها تناديه كلّ ليلة... فيهبّ من نومهِ لينطلق إلى حافة الكون... وهذا الصامت المنعزِل صاحبُ لغز تراب الجثّة الذي يحيّره ما يفعله بالثمار الطالعة منها... وهذا القطروز، بيديه المرتجفتين، والذي تحدّبَ رغمَ عدم وجود ما يُثقل عليه... وصاحب الخوذة الذي لم يعد يمتلك غير قسوته وفظاظته... وأخيراً هذا الخال الذي قضى حياتَه في خيالي حاملاً بندقيته من مكان إلى مكان.

إننّي أشعر بقرابة عائلية من كلّ هؤلاء... وكأنّهم يحدّقون إليّ وينتظرون أن أخرج بهم من ظلامهم... حين أصلُ إلى حلّ الألغاز... ألغاز أبي الهول... سيخرجون واحداً فواحداً وينفكّ السحرُ عنهم... ويتحرّكون. ولكنْ من أنا حتّى أجمع هذا الشتات الكبير؟ وهل تكفي ذاكرةٌ واحدة لاستعادةِ ملايين التفاصيل؟ وأنّى لي أن أدرك بماذا كان يفكّر الشيخ حمزة... وما كان يعنيه؟ إن تفاصيله تغيب في ماضيه فقد سقطَ دون أن يلتقطه أحد... كما تسقط ثمارُ شجرة الجوز ولا تجد من يسجِّل تاريخها، وكذلك سقطَ هؤلاء.. قبل أن ألتقطهم أو يكون لي من العمرِ ما يمكّنني من اجتذاب اهتمامهم ليتحدثوا إليّ أو ليهتموا ببقائهم... فحتّى هذا الاهتمام لم يكن يعنيهم كثيراً. 

يا لهذا الحُزن الذي صعد مثل غيمة وبلّلَ وجه الأرض

كلُّ شيءٍ مختصر في أحيانٍ كثيرة... مُختصر إلى درجة الإشارة فقط في عبارة واحدة أو سطر واحد أو اسم. ويترك كلٌّ منهم للوطنِ أن يتغلغلَ فيه حتى جذورهِ، فتجده مبتّلاً يهتزّ أو ناضباً إلى درجة الذبول والانكسار... ثمّ هو لا يقول شيئاً. 

كان يغذّيهم شيء غامضٌ في هذه الغابة الحجرية... خارج قرارتِ الأمم المتحدة وخارج الصحافة... والكتب المدرسية وأخبار الرؤساء... وخارج الصراع... أو ما نظنّه صراعاً. اشتعلوا وانطفأوا. هكذا يُراد لنا... وكأنّما بقسرٍ من نوع ما... أن نتجوّل بين الأغصانِ المتفحّمة والتماثيل الحَجريّة ونقلب هذا الحجر أو ذاك، ونشقّ طريقاً بين الأعشابِ الطويلة النامية والأحراش لنكتشف أصولنا... قريتنا... أو وطننا. بدون مساعدة من أي نوع كان.. غير هذه المشاهد الغامضة لأناسٍ تركناهم وراءنا في الغابةِ أمواتاً أو أحجاراً. سأشعر بالنفور من كل هذا الظلام وأصابُ فجأة بالدهشة ذات يوم.

كانتْ زائرة ذات أهمية غير عادية قد جاءت من البعيد... طويلة بحجم يكاد يكون هائلاً ترتدي ملابس ثقيلة. وتشدّ على يدي بقوّة أشعرُ معها كأن حجراً أطبق على يدي. كانت مثل خيمةٍ تسير، بعينين قويّتين وحواجب كثيفة.

وتسألني الزائرة: "كيف فكرك ببلاطات الشُقّاق؟"... فأقول: "راحتْ على الذين راحتْ عليهم".

ربّما كان امتحاناً.. ذلك أنّها أطلقتْ إشارة، وتلقّفتها فوراً، ولكنّ جوابي لم يكن صادقاً، ولا نابعاً مما أريدُه أو أعتقدُه.

وعادتْ تقول: "يعني راحت؟"

وأصرّ على القول: "نعم"

وينقطع الحديث، وتتحول الزائرة عنّي... ولكن بعد أنِ انتصبتْ في ذاكرتي بهذا الاقتضاب الموجَز الذي اختصرت فيه سؤالها عمَّا فعَلْته، وعمّا أفعله... وعمّا أفكّرُ فيه... وما هو أنا تحديداً. وأشعر أنّي لمحتُ في عينيها نظرةً ساخرةً وهي تستدير عنّي.

كما تسقط ثمارُ شجرة الجوز ولا تجد من يسجِّل تاريخها

قالت أمّي عنها... هي ليست رجلاً ولا أنثى. إنّها كما يسمّونها "رجّالية كانت تخرج مع الحرّاثين". وتذكّرتُ الحجرَ الذي أطبق على يدي. وأسألها... ماذا تفعل هنا؟ فتقول إنّها تبحث عن شخص قتل أخاها منذ أيام البلاد، وكلما سمعتْ أنه في بلد سافرتْ بحثاً عنه. ويضاف إلى الدهشة شيء من الرعبِ الهادئ. وأسألُ أمّي: "وإذا وجدته... ماذا ستفعل؟".
لا تتعب أمّي وهي تُعيد رواية القتل كما سمعَتها... ولا تجيب عن سؤالي.

ها هو حزنٌ هائلٌ تختزنهُ هذه المرأة/ الرجل. لم يعد حزناً بل رغبة صامتة في العثور على قاتل أخيها... وهي تلتفّ بعباءة سوداء وتشدّ رأسها بما يشبه العمامة التي لا يظهر تحتها شعرُها الأشيب. هي في الخمسينيات من العمر، وربما تجاوزتها قليلاً. أما الآن... فأين تكونُ؟ وماذا فعلتْ؟ هل وجدتْ ما تبحث عنه؟ إنّها تضيع في تضاريس أيامي مثلَ بذرة صلبة لا تنمو. ويطالبني الخيالُ أن أُطلقَها من التربةِ وأنمّيها لتستويَ شجرة أو شيئاً مفهوماً. ولكنّني أفضّل معها، شأني مع الكثيرين، أن يبقيها بذرةً غامضة وصلبة.

لا أحد ينمو حتى الآن من سكان الغابة الحَجرية، أو أنّني لم أجد بعد الوقتَ الكافي لأجعلهم ينطلقون باتجاه المستقبل أو الجهات الأربع... باتّجاه مصائر لم تتحقّق. لقد توقفوا عند اللحظة التي كانت الأشدّ تأثيراً... وبعضهم واصلَ حياته إلى أن شهدتُ نهايته وقد ابتلعه الموتُ الأشدّ غموضاً من حياتهِ. 

ليس لي الحقّ في إطلاقِ هذه الكائنات الحقيقية. تلك التي لم يخلقها خيالي، خارج غابتها وطبيعتها وخيالاتها... ليس لي الحقّ في كتابتها كما أشتهي... سأنتظر التفاصيل... تفاصيل هذا السكون الذي يقيّدهم.

المساهمون