أطفال الندى (11): يقفُ صامتاً أمام شمسٍ غاربة

23 يوليو 2022
طرقٌ ترابية موصلة إلى قرية أم الزينات التي هجّر الاحتلال الإسرائيلي أهلها عام 1948
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أَطفال الندى"، أبرز أعمال الشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في أيلول الماضي، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد" وأحد أبرز كُتّاب فلسطين والعالم العربي.


ونتقدّمُ من الغول بكلّ شجاعة، فنسلّم، ونحن مطمئنّون إلى أن سلامنا سيجرّده من كلِّ أسلحتهِ وسيحوّله إلى كائنٍ مُسالم يدلّنا على الطريق التالي: "لولا سلامُكَ سبق كلامكَ لسمعتَ طحن عظامك"، ونضحكُ في سرّنا من غفلةِ الغولِ، ونواصل إلى أختهِ، ونسرعُ هناك إلى ثديها فنرضع منه، وإلى كوزها فنشرب منهُ.

فما إن تصحو من المفاجأة حتى نكون قد عبرنا مرحلة الخطر. ولكنّ أبناءها يأتون في آخر النهار فتحوّلنا إلى إبرةٍ تضعها في شعرها، وتنكرُ أن هناك إنسياً يختبئ في مكان ما، بينما يصرُّ أولادها على أن هناك رائحة إنسيٍّ في البيت. وبين قلقنا وخوفنا ونحن في حالة الإبرة، وبين اطمئناننا إلى أن كلَّ شيء يسير في القصة إلى النهاية السعيدة، نتأرجح للحظات حابسين أنفاسنا... ثم نأخذُ غرضنا وننطلق هاربين.

وفي قصّة أُخرى تقضي الغولة المتنكرّة في زيّ أختٍ على جميع القرويّين، وتطاردُ دجاجهم وأغنامهم، وتأكلُ محاصيلهم حتى تخلو القرية منهم إلّا من ديكٍ وحيدٍ تظلُّ تطارده وهي غاضبة، ثم يأتيها الشاطر الذي لم تَنطلِ عليه الخدعة منذ البداية فتكون نهايتها على يديه.

وأتخيّلُهُ صغيراً في مثل سنّي تحاول الغولة اصطياده حين ينام ولكنه لا ينام، وتتحايل عليه بشتى الطرق، فيذكّرها دائماً بأنه يقظ وساهر حتى الصباح. إن الغولة التي حوّلتنا إلى إبرة تبدو مختلفة عن هذه الأخيرة أو هي من جنس آخر، تأسرُه كلمة السلام والرضاعة والأكل من أواني طعامه بينما تبدو الأخرى مجرّد نهمٍ لا يشبع... يظلّ يأكل ويأكل حتى يقضي على الناس جميعاً، ويقف وحده في الفراغ إلى أن يلقى نهايته المحتومة على يد الذكاء... هو البليد الذي لا يعرف أن مصيره محتّم، وأننا نحن الصغار نراقب المشهد ونعرف أن نهايته قريبة ومؤكَّدة.

"لقد طلبت الأوطانُ أصحابها"

بهذه العبارة نصل إلى نهاية قصّة أُخرى، تكون فيها الغربة هي السيدة المجهولة والعجيبة التي لا تّتخذ شكلَ امرأةٍ أو رجلٍ أو شيءٍ مُجسّدٍ ممّا يمكن لمسُه، ومع ذلك فإنها تهيمن على مصيرِ هذا الرجل الذي اجترحَ المعجزات. وما كاد يستريحُ حتى طلبته الأوطان. وتكرّرُ أمّي هذه العبارة في قصص كثيرة وبلهجةٍ يعقبها تنهّدٌ لا نعرف هل هو تنهّدُ ارتياحٍ من وصول القصة إلى نهايتها، أم تنهّد مَن يدرك أن كلّ شيء يسير في الخيال... وبعيداً عن غابتنا الحجرية هذه، وعن الصغار والشمس التي نشاهدها كلَّ يوم.

تنهُّدُ ارتياحٍ من وصول القصة إلى نهايتها، أم تنهُّدُ مَن يدرك أن كلّ شيء يسير في الخيال

كانت الطفولة تتنكرُ كلّ يوم تقريباً، وتمثّلُ شتّى الأدوارِ على هذا المسرح الذي تقيمه أمّي في آخر الليل وترسلنا فيه إلى الطرق الجبلية الوعرة، أو تضعنا أمام مغاراتٍ يتدفّأ على أبوابها غولٌ في صورة إنسان أو تتركنا هنيهةً في شكل إبرة في شعر غولة، أو عشاقاً يتجوّلون في البلاد بحثاً عن تلك الأصيلة الفريدة التي يعرفون أنها موجودة... ولكنّ المُصادفة وحدها هي التي تقودهم إليها. ربما لهذا السبب لم يبقَ من النهاراتِ إلا أقلّها في الذاكرة.

الليلُ وحده هو السّيدُ الذي نألفه أكثر من غيره، حيث نتّخذُ طريقَنا فيه إلى بلادٍ غامضة لا نسمّيها ولا نسأل عن أسمائها. ويحدثُ مرّةً أن أسأل أين حدث كلُّ هذا، فيكون الجواب: "في زمان قديم... قديم وفي بلاد بعيدة" هي بالتأكيد تلك التي عاش فيها الكبارُ وعرفوها وترك فيها كلّ واحد منهم شيئاً... أمّا ما تركناه نحن فكان الأخ الأكبر الذي تتحدّث عنه أمّي، وتقول وهي تمرّ بيدها على لحاف صوفي بغطاء أحمر: "سيكون له ولعروسه".

ولكن ما يشغلني هو: "أين كنتُ آنذاك؟". إنّ كلّ شيءٍ حدث، ويحدث دون أن أكون موجوداً إلّا في القليل النادر، إنّهم قطعة من المجهول.

لا أحد يخاطبني أو يدعوني لاعتلاءِ خشبة المسرح، وكلّي اعتقادٌ أن اللحظات التي كنتُ أحبس فيها أنفاسي حين يُلقي الرجلُ السلامَ على الغول أو يتحوّل إلى إبرةٍ ويختفي عن عيون الغِيلان، أنني كنتُ أتسلّل في غفلةٍ من أمّي وألتحق به. ولو عرفتْ بما كنتُ أفعله لربما منعتني وأوقفتْ قصّتها، ولكنها لم تكن تعرف بتلك اللحظات التي كنتُ أتسلَّلُ فيها وأرافق الرجلَ أو الشابَّ، وأُعاني ما يعانيه من مخاطر أو مخاوف حتى أني كنتُ أتلفّتُ حولي فتتوقّف وتقول: "لا تخافوا... هذه قصص".

إلا أني وقد وصلتُ إلى ذروة التلّ أو الجبلِ أو وقفتُ على باب المغارة، أكون قد بدأتُ أشعر بالخوفِ والرعب فأقترب من أخواتي المتجمّعاتِ حولها، وأنا أحسّ بعمق الظلام والسكون المُحيطَين ولا أطمئنّ إلى ثقلِ اللحظةِ وملمس اللحافِ وقوّة الجدران.

إنّ الجزءَ الأكبر منّي يظلّ بعيداً حيث المُشاهد التي تحكيها القصة، يتحسّسُ طريقه إلى حيث سيكونُ الاختبار الأكبر، حين أواجه الغول أو الغولة. وأتساءل: "هل سأنجح؟".

إنّ لديّ شكاً في أني أحفظ التعليمات جيّداً... "عندما تصل تبادره بالسلام" و"عندما تشاهدها وهي جالسة تطحن القمح، أسرعْ وارضعْ من ثديها، ثم اشربْ من كوزها، وإلا".

ياللشاب المسكين! الكثيرون لم يتذكّروا التعليمات وأخذتهم الرهبة وغشيهم الخوفُ، واطمأنوا فحسبوا الغولَ رجلاً أو الغولة امرأةً، فأخذتهم الغيلان بكل بساطة. وهكذا كنتُ أشاهد عظاماً كثيرة في الطريق إلى المغارة، وبين المنحدرات، فيزداد حذري من المصائر الغامضة لآلاف الناس. ومع ذلك لا أحد يستطيع إيقافي أو أنني لا أستطيع التوقّف، منساقاً هكذا بتيار خفيٍّ في الرواية وصوتِ أمّي، والسكون المحيط بنا... وكأننا نمضي إلى النهاية، فلا أحد يتوقّف في منتصف الطريق وإلّا هلكَ... لا أحد يرفض الامتحانَ وإلّا لم يعد جديراً بأمّهِ وأخواتهِ، والناس الذين ينتظرون أخبار قتل الغيلان أو استغفالهم وأخذ أشيائهم التي احتجزوها وكانت تعود لنا بالتأكيد.

منساقاً وراء تيار خفيٍّ في الرواية وصوتِ أمّي والسكون المحيط

كلُّ الأنظار تتسلّط عليّ في هذا المسرح المُقام في الهواءِ الطلقِ على الطبيعة تماماً، مسرحٌ تُقطع المسافاتُ فيه بأيامٍ وشهورٍ وسنين، ويغيب فيه الناسُ عن بلادهم دهراً، ولكنهم يعودون في النهاية.

أخي لم يعدْ أو لم يصل بعد، وسيظلُّ لحافهُ الصوفيّ الكبير بغطائه الأحمر وكلمات أمّي هو ما يبقى بعد أن يجيء ذات يوم في وسط صفٍّ من الرجالِ يتقدّم خطوةً خطوةً، ويتزاحمون عليه وعلى والدي الذي أحاطه بذراعيه وكأنه سيفلت من يديه، وأراقب المشهدَ من بعيد، بدون أن يلتفت إليّ أحدٌ، تماماً كما حدث حين حملتهُ مجموعةٌ من الرجال في تابوتٍ بعد أشهر قليلة من مجيئه، وسرتُ بعيداً وراءهم أسأل رفيقاً يسير معي: "أين يذهبون به؟".

لم ألتقط من مشهد المجيء والذهاب إلّا وقوفه ساهماً عصرَ كلّ يوم متطلّعاً إلى الغروبِ، إلى الشمس وهي تغيب وراء الأسلاك البعيدة في برّيةٍ لا تنتهي.

كان شابّاً جاء به سائقٌ يتردّد على الأردن وورثتُ عنه دفتراً ساحراً كلماته عجيبة لا أستطيع قراءتها. كانت كلمات إنكليزية مكتوبة بخطٍّ واضحٍ ومتكرّرة. أقلّبُ صفحاتِ الدفتر، فيزعجُني هذا التكرار... ولا أعرف ماذا وراء هذا الدفتر الصغير. وأتذكّر أنه أتمّ الصفّ السابع واشتغل في حيفا وكان يجيئنا عصرَ كلّ يوم عائداً في الباص الذي لا يُعرَف إلا باسم باص عوض.

وينبعث في ذهني كلبُنا السلوقيّ المبقَّع باللون البنّي، وهو يهرع لاستقباله. ويقول قريبٌ لنا: "أمسكته يرحمه الله من قميصه وهو يندفع إلى البيت، وأخبرته أنكم رحلتم. ومنذ تلك اللحظة لم أره".

وستقول لي امرأة عجوز بعد ذلك بصوت كالفحيح: "كان ينكمش من البرد... ولا أحد يعطيه بطانية. وكان يُخفي عنّا جرحه الذي أصابه في خاصرته إلى أن دخلتُ عليه يوماً فوجدته على هذا الحال... فغيّرتُ له رباط الجرح، وأعطيته بطانية".

إنه يدخل في خيالي صامتاً أمام الشمس الغاربة وجارةٌ تهمس بأنه: "آن أوانُ زواجه"، فتقولُ أمّي وهي تتطلّع إليه في وقوفهِ ذاك: "مازال صغيراً". أكان هو بطل الأقاصيص التي سمعتها؟ لقد توقفتْ أمّي عن رواية قصصها منذ ذلك اليوم، ربّما لأن الشاطر قد عاد إلى البلد وقضى على الغولة اللعينة... وربما تجاوز مخاطر الوعر بعد أن انعزل طويلا.

كان شاباً هجر الناسَ وتوحّد، ولا أدري ما السبب. وها هو يعود كما يبدو من تناقص الليل وازدياد النهارات في أيامنا. ويدخل خيالي بدفتر صغير مملوءٍ بكلمات إنكليزية لا أفقه لها معنى، وإن كنتُ أدرك أنها ذات قيمة كبيرة... ووراءها سرٌّ كبير.

ثمّة أشخاص يعرفونه في هذا العالم ذكرت لي أمّي اسمَ واحد أو اثنين منهم. ولكن لا أحد يستطيع رواية القصة كاملة أو لا أحد يمتلك خيالاً قادراً على الطيران بين أغصان الغابة المتحجّرة. لقد عاد الصمتُ ليفرضَ علينا سيادته، وكان عليّ أن أُطلق تمثالَ أخي من جموده وأرافقه بدون أن يساعدني أحد.

"إنهم يحلفون بحياته"

وتزيدني هذه العبارة رغبة في معرفة المزيد عن هذا الشخص الذي لم أكن إلّا شاهداً عليه في مشهد اكتظّ بالناس من كلّ جنس ولون إلّا منّي أنا أخوه، وها هو يحيا أخيراً فيَّ أنا الذي لم يعرني أحدٌ اهتماماً.

الأيامَ المقبلة هي أيام عودة من ماتوا أو غابوا

سأجعله إذن من أبناء الندى، من هؤلاء الذين يزدحم الوجود بهم من حولي، ويغيبُ هو عنه، راقداً في مكانٍ ما من جنوب العراق، تغطّيه حجارةٌ مطليّة بالكلس قد خدّدها المطر، وتسفُّ الرياحُ من حوله ويتساقط المطر. وتتذكّره أمّي، ويبتئس الوالدُ الذي لا أشكُّ أنه بكاه كثيراً في وقتٍ لم نكن نعرف فيه ما الذي حدث. إنّ لي موعداً معه. هكذا لم أشعر بالموتِ إلّا غياباً مؤقتاً، وأن الأيامَ المقبلة هي أيام عودة من ماتوا أو غابوا. ويلازمني هذا الإحساسُ حتى لا ستطيع تخيّل هذه العودة... ورؤيتها في الأحلام.

وتقول أمّي وهي تمرّ بيدها على اللحاف الصوفيّ بغطائه الأحمر: "سيكون له ولعروسه". ولكن كلّ هذا لم يكن ولن يكون أبداً، فقد انقطعتِ القصة عند هذا الحدّ، وتوقّفت أمّي عن إرسالنا إلى الوعر والمغارات والبلاد البعيدة، واحتفظت بنا، بصمتها قريبين تماماً.

لم تعد كلماتُها تطلقنا أو تسمح لنا بالرحيل، كأنها أصيبتْ بالندم لأن بكرَها الوحيد راح ضحيّة رواية أطلقتها وكلماتٍ حكتها ذات ليلة، بدون أن تعرف كيف ستنتهي.

سجناء نحن إذن، ولن نعرف بعد اليوم كيف نخطو في الظلام المُوحِش الذي ابتلع أخانا الكبير وأخذ معه قلبَ خمس أخوات وأب وأمّ... وصغيرين سيولدان بعد ذلك على حافة الصمت، فيخترعان ما يكفي ليعيش فيهما الأخ الأكبر أيضاً، ويحدّثهما ويتعرّفان عليه كما لو أنه هاجس السلالة كلّها.

المساهمون