أصوات الصمت (7): يحملون قصصاً لم تسمع بها

18 مارس 2023
عمل للفنان الكويتي - الفلسطيني طارق الغصين (1962 - 2022)
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "أصوات الصمت"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في  سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتاب فلسطين والعالم العربي.


13

لم تعُدِ الدروازةُ ، أي البوابة، دروازةً إلى أيّ شيء، فهي منذ عرفتُها أربع طرق تتقاطعُ، تتعمّق إحداها إذا مضيتَ قُدماً إلى الشرق، أي بموازاة البحر المحجوب يساراً بعمائر إسمنتية، وتعيدك أُخرى إذا مضيتَ جنوباً إلى شارع السور، أي إلى أطراف الكويت المُطلّة من وراء سورها الطيني على الصحراء قديماً، والمُطلّة على فيلّات ألف ليلة وليلة حديثاً.

ولأنكَ ذاهب إلى البحر، فعليك أن تمضي شمالاً، وستقودُك الطريق إلى عمائر أضخم على الجانبين، مبنى البورصة من جهة، ومباني المصارف الشاهقة من الجهة الأُخرى، فإذا واصلتَ المسير واجهكَ دوّارٌ عُشبي أخضر يرتفع إلى يساره مسجد الدولة بجدرانه العمودية الرمادية المصقولة الخالية من النوافذ، ويمتدّ خلفه مباشرة شريطُ قصر السيف بنوافذه البُنّية المُخرَّمة وطابوقه الأصفر، وعقود شرفاته التي تخبِّئ الظلال وقوس بوّابته العريضة، وإلى جانبه تكاد تختبئ بوابةٌ جانبية منخفضة تعلوها عبارة كُتبت بخطٍّ عارٍ من أي زينة "لو دامت لغيرك ما وصلت إليك". 

ولن تتبيّن مشهد البحر القديم إلّا إذا واصلتَ طريقك  يساراً. هذا هو شارع الخليج الطويل أو شارع البحر والسفن، أو ما تبقّى من سفن وناس، البحر الذي ارتسم في لوحة من لوحاتي ذات يوم ضئيلاً معلّقاً فوق أعالي سطوح بيوت طينية لا يزال بعضها مأهولاً، وحلّ ببعضها الفراغ والسكون وتآكلت جدرانه.

هكذا بدا لي البحر آنذاك، مجرد ضربات فرشاة زرقاء قاتمة أفقية في أعلى اللوحة، وتحتها تتدرّج نزولاً هذه البيوت الطينية، وصولاً إلى الفيلّا وسكّانها ونوافذ غُرفها الخشبية. 

سيظلّ الفلسطيني يستمع إلى صوت قراه المدمّرة، وشيئاً فشيئاً سيصل صوته إلى الناس

كلّ هذا لا وجود له الآن، كأنما انهار ديكور كان يحجب البحر، وامتدّت أرض خالية في كلّ الجهات إلّا من بقايا جدران وزوايا بيوت، ومسجد شبيه بعلبة ومنارة قصيرة، وأشجار سدر بيتية صامتة تُلقي ظلالَها في الفراغ، وللفراغ وحده؛ فراغٌ لا تطلّ عليه الآن سوى أشجار هي ذاتها لم تعد تظلّلها جدرانُ البيوت، ولا تجتذب أغصانها المتشابكة عصافير الدوري، ولا النسمات الرَّخيّة في أمسيات الصيف القائظة، أشجار عليها أن تُطلّ الآن على غيابنا أيضاً، أي على سكان الفيلّا.

وعليها أن تفكّر بهم كما فكّرتْ بقوافل الغائبين المتوالية التي مرّت على هذا الساحل؛ بصيّادي الأسماك وصُنّاع الأختام الحجرية وتجّار العقيق والنحاس والقراصنة، وبناة المعابد اليونانية الذين عبثت بأرديتهم رياح آسيا؛ بصناع التماثيل الفخارية وكهنة آرتميس الذين يحرِّمون صيد الوعول إلّا إذا كان تكريماً لهذه الصيّادة الماهرة؛ ببُداةِ الجزيرة القادمين مع نسائهم وخيولهم وأطفالهم وسيوفهم باحثين عن إطلالة على البحر؛ بالمنقّبين عن البترول القادمين على ظهور السفن الإنكليزية؛ بقنّاصة شركات المِلاحة، صّيادي شعوب سواحل المحيط الهندي، وهم يسحبون بشباكهم العملاقة ملايين البشر من كلّ الأجناس مع تماثيل آلهتهم الخشبية العارية، لتتفرّج عليهم ملكتهم ذات الأرداف الثقيلة، ثم يفرزهم تجّار القطن والمطاط والنفط في لندن أكواماً أكواماً مثلما يفرز الغواصون حصيلة سلالهم من المحّار والحصى والقواقع وشظايا جرار السفن الغارقة.

- "لن تكونوا آخر الغائبين...". 

هكذا تفكّر أشجار السدر المتروكة أمام كلّ هذا الفراغ:

- "... فالمستقبل يجيء بملايين الغائبين أيضاً، ولن يتوقّفوا عن الغياب، ولن يتوقّف المستقبل عن المجيء بهم إلى هذا الساحل مغمورين بظلال أبدية تنسحب عن وجوههم شيئاً فشيئاً، تاركةً لي وحدي أن أتأمّل الفراغ... والبحر في مدّه وجَزره...". 


14
 
بعد أيام حدّثنا المتصوّفُ عن لقائه بمَن أطلق عليه لقب مفتي الديار المسرحية، أي ذلك الذي لا يُفتَى بشأن مسرح فلسطيني في الكويت أو في جزر الواق واق وهو موجود.

كان الخطأ، أو الجريمة في رأي ميرسول، الذي جاء بهذا المفتي إلى مسرحنا وهو في طور التكوين، خطأُ علي الطشّ المُعلَّق بحماقةٍ بخيط من خيوط أبو الخيزران القابع في مكتب منظمة التحرير. 

نحن فلسطينيون ويجب أن يعنينا ما يعني العالم ويعنيه ما يعنينا

الطشّ هو من أدلى بأخبار فريق الفيلّا وتحوِّله إلى فريق مسرحي على مسامعه، وهو من تحدّى المفتي أن يجيء إلى بيتنا المُطلّ على البحر، ليشهد لأول مرَّة في حياته ولادة مسرحية فلسطينية حقيقية. وقَبِل المفتي التحدّي من دون أن يغادر مكتبه، قائلاً بلهجة مراوغ ماكر:

- "تريدون مسرحاً... أهلاً وسهلاً... ولكنْ لا بدّ من المرور بنا... هذا شغلُنا... وأنتم أبناؤنا... وبيتنا مفتوح لكم... ثم كيف تصنعون مسرحية؟ هل كتبتم مسرحية من قبل؟ هل مثّلتم؟".  

- "بالطبع لم نمثّل من قبل...".

تمتم الطشّ متوجّساً وأضاف: 

- "ولكنْ دعونا نجرّب، وبدلَ أن تأتوا بمن يمثّلنا دعونا نصعد على خشبة المسرح ونمثّل أنفسنا".

- "أنت فلسطيني حقيقي... فتحاوي... ولكن من هؤلاء الذين معك؟".

- "هم فلسطينيون أيضاً، وللحقيقة، بدأوا بتأليف المسرحية، وكانت مثيرةً وصادقة".  

- "وكتبتم مسرحية أيضاً!".

- "مسرحية من تفاصيل واقعية... حتى إنّ أحدنا سيخرجها".  

- "ولديكم مُخرِجٌ أيضاً!".

- "وكلّ ما يلزم... ولكنّنا بحاجة إلى مكانٍ للعرض".

لم تخف لهجة المفتي الساخرة على الطش، إلّا أنه ظلّ مُمسكاً بحماقته واثقاً من وجود أحدٍ ما في أروقة المنظَّمة ودهاليزها تستطيع أفكارُنا استثارة إعجابه وحماسه. 

بدلَ أن تأتوا بمن يمثّلنا دعونا نصعد على خشبة المسرح ونمثّل أنفسنا

لم نكن بحاجة لهذا بالطبع، فهنا كما تخيّل النمّول، يمكن أن نبحث عن مسرح كويتي يستقبلنا، ونجدَ جمهوراً وأشجاراً وعصافير، وما يكفي من الأجهزة لتبثّ أصوات تسجيلات أبي عواد،  فيصعد أبو عواد ليقصّ على الجمهور حكاية لقائه بمجنون آخر الليل، ورحلاته إلى أحفاد القرامطة؛ ويتحرّك الميّتُ ويهبط من سريره ويروي نبأ رحلته إلى القصر الملكي، ويجلس ميرسول على طرف المسرح قريباً من الجمهور ليحدّثه عن أيامه في كهف الكاهنة، وخلف كلّ هذا تظلّ حاضرة موسيقى أصوات الصمت، أصوات قرانا المنسية. 

قال المتصوّف: 

- "هذه سذاجة، أو هذا هو ما استقبلني به المفتي في البداية، لن تجدوا أحداً يستقبل مسرحكم هذا، هل أنتم مجانين؟ هذا مسرح؟ يقول كلّ واحد منكم ما يشاء... لا يا سادة... دعوا المسرح لأصحابه، فقلت له بأناتي المعتادة كما تعرفون، هؤلاء شبّان يحملون قصصاً حيّة لم تسمع بها، فعلى ماذا تعترض؟".

كنا نُصغي متجمعين حوله في غرفتنا، والصيف في الخارج يبدأ بنشر أشعة شمسه اللاهبة، فتتضاءل النوارس البيضاء على الشاطئ، ويمتدّ النهار حتى السابعة، ويهدر صوت مكيّفات الهواء في الغرف، ويبدأ سكان الفيلّا بنقل أسرَّتهم ليلاً إلى السطح المتشقّق إثر زخّات مطر الشتاء، ثم هبّات رياح الصحراء الجافة المنتظرة دائماً على الأبواب.

وتابع المتصوّف نشرة أخباره: 

- "فألقى عليّ محاضرةً طويلة، أولاً ما معنى هذه الرحلة من ألمانيا فرومانيا فالبوسفور، وهذا الحديث الغامض عن مجنون في بغداد؟ وما علاقة كلّ هذا بفلسطين؟ وما معنى هذه الرحلات المشبوهة إلى البحرين وأحلام ثورات هنا وهناك؟ هل تريدون زجَّنا في مشاكل مع محيطنا العربي والعالم؟ ثم ما أهداف فاصل صوت القُرى المهدومة والمنسيّة منذ أكثر من ثلاثين سنة، وأنها ما زالت تتحدّث؟ هل نسيتم أن لنا الآن برنامجاً مرحلياً، هل هناك احتلال في عام 1948، نعم، ولكن هذه أصبحت إسرائيل، وأخيراً هل تريدني أن أقتنع أن لقصة صاحبكم ميرسول أساساً من الصحة؟ وحتى لو صحت ما قيمتها وفائدتها لنضالنا؟".

- "هذا ينسف كلّ شيء فكّرنا به".

جاء هذا التعليق من أبي عوّاد، والتفتَ ميرسول إلى علي الطش ساخراً: 

- "هؤلاء هم ثوارك يا بطل".

ثم سأل ملتفتاً إلى المتصوّف: 

- "وماذا قلتَ لهذا المفتي؟".

- "كان عليّ أن أشرح له أولاً معنى ظلال الكلمات".

- "أي ظلال يفهمها هذا الفقمة القابع وراء مكتبه؟". 

لم ينزعجِ المتصوّف، وواصل كأنه لم يسمعِ اعتراض صاحب الكاهنة: 

- "لكلّ كلمة ظلّ، بل وظلال. حين نتحدّث عن يوميات رحلة الصيف في الأصقاع الأوروبية فإنما نجيء بها إلينا بكلّ ما تحمله من وجوهٍ ومشاعر إنسانية، وكذلك الأمر مع حكاية القرامطة والكاهنة ومجنون بغداد، ورحلة الأبله إلى القصر الملَكي، نحن جزء من هذا العالم، ويجبُ أن تحضر أصواتُه وظلاله عندنا، من نحن أيها السيد؟ هذا هو ما قلتُه له، نحن فلسطينيون يجب أن يعنينا ما يعني العالم، ويعنيه ما يعنينا، أي إننا نتفيّأ الظلال نفسها التي يتفيَّؤها العالم، هذه مسرحية لم يمثّلها أحدٌ حتى الآن، تودّ أن تحتفي بظلال كلّ ما هو إنسانيٌّ فينا وفي غيرنا، وإنْ بدا غريباً على سمعك وسمع برنامجك المرحلي وكلّ هذا الهراء... غضب بالطبع، ولكنه راوغ بخُبثٍ زاعماً أنه شخصياً معنا، ولكنه ملتزم بتنظيمه من جانب آخر، وطلب رؤية مسرحيتنا مكتوبة حتى يتمكّن من صياغتها حسب الأصول".  

- "أصول من؟".

سأل ميرسول بعصبية، وأضاف: 

- "ما وظيفة هذا المفتي في المكتب؟".

- "لا تسأل عن وظيفته، السؤال المنطقي أن تسأل كم يقبض، هذه هي العادة الجارية في هذه الأيام". 

دمدم أبو عوّاد قبل أن ينكفئ ويرتدّ إلى سريره.

وعلّق المتصوّف، بلهجة حانية غير معتادة:

- "سواء فَهِم هذا الفقمة أو لم يفهم، سيظلّ الفلسطيني يستمع إلى صوت قراه المدمّرة، سيكون وحيداً مثلما كان، سيغني وحيداً، ولكن شيئاً فشيئاً سيصل صوته إلى عدد متزايد من الناس، هذا وأمثاله من الكروش المتهدّلة يتعيّشون على عذابنا، يمثّلون عذابنا، ولكنّنا لسنا بحاجة إليهم، سنغنّي أغنيتنا في كلّ مكان وننشر ظلالنا".  

المساهمون