في المخيال العالمي، ترتبط مدينة نورنبرغ الألمانية بالنازية، فقد كانت المكان الذي عُقدت فيه مؤتمرات مَهيبة لأنصار الفوهرر، وفيها جرت المحاكمات الشهيرة بعد سقوط أحلام الرايخ الثالث بنهاية الحرب العالمية الثانية. لكن زائر المدينة في أيامنا سيقف على حرص واجتهاد لفك هذا الارتباط، في مشهد صارخ للانتقائية التي يمارسها الحاضر على التاريخ.
مثلاً، لا تتيح الخريطة السياحية المعتمدة أن تتعرّف على ما بقي من المعالم النازية. عليك أن تبحث بمفردك، وأن تسأل وتتوه، كي تصل إلى ذلك الفضاء الواسع الذي كان يصنع فيه أدولف هتلر أسطورته ويخطب في وجوه مسحورة بعد أن سمّى نورنبرغ "العاصمة الأيديولوجية للرايخ الثالث".
وحين تصل إلى ذلك المكان الرهيب، لا تعتقد بأنك ستملأ هاتفك بالصور التذكارية، إذ ستكون أمام حديقة واسعة تمارَس فيها الرياضة أو يلاعب فيها البعض كلابهم. لم يبق من المَعلم الضخم الذي يسع 150 ألف شخص وصمّمه المعماري ألبير شبير إلا منصّة حجرية بأقواسها المتعددة منقوش فيها بأن النازيين كانوا يتجمّعون في هذا المكان منذ أن وصلوا إلى الحكم في 1933 إلى سقوطهم الكبير في 1945.
مقابل محاولة إخفاء الأثر النازي، تجتهد المدينة في إبراز تاريخها القديم
تقف هذه المنصة في أيامنا وحيدة غريبة ذابلة في فضاء أخضر ضخم يسمّى اليوم "حديقة لويتبولدهاين"، وهذا هو الاسم الذي تجده على الخريطة أو في التطبيقات الإلكترونية وبالتالي فهو أشبه بحجاب مضروب على التاريخ النازي للمدينة. وإن كان من الجدير أن نشير بأنه الاسم القديم للمكان، بحيث إننا حيال طبقات من الطمس المتتالية.
في مقابل محاولة إخفاء الأثر النازي، تجتهد المدينة في إبراز تاريخها القديم، التاريخ الأبعد. وفي هذا السياق، تحوّل القصر الإمبراطوري "كايزربورغ" إلى المعلم الرئيسي للمدينة. هو أوّل ما تدلّك عليه اللافتات وأكثر ما ينصحك به أبناء نورنبرغ.
لا يحمل هذا القصر الذي بناه الإمبراطور فريديرك الثاني في القرن الثالث عشر ميزة خاصة، فهو أحد القصور التي كان يقيم فيها الأباطرة، وكان ذلك كافياً كي تعتبر نورنبرغ مدينة إمبراطورية.
يقال إن هذا التاريخ الإمبراطوري للمدينة هو ما دفع النازيين لاعتمادها كمدينة رمز. هناك هيبة في هندسة المدينة، معمارياً وطبيعياً، لا تزال متجلّية إلى اليوم. يُحسب لنورنبرغ حفاظها على حبل السرة مع تاريخها القديم رغم أنها قد تحوّلت إلى مدينة صناعية منذ القرن التاسع عشر، واليوم تنجح في مقاومة إغواءات الزمن الرأسمالي الاستهلاكي دون أن تكون خارجه.
في أي نقطة من نورنبرغ اليوم يمكنك العودة ألف عام إلى الوراء. ولا يمكنك العودة إلى بضعة عقود. لقد حاول النازيون تشغيل الذاكرة العميقة لنورنبرغ القديمة من أجل بناء أسطورة ألمانيا الجديدة. نجحوا في ذلك إلى حين، ولم يدر بأذهانهم أنهم وصموها حتى بات أهلها يجتهدون في تحرير أنفسهم من ذاكرة العالم التي تربطهم بالنازية ولا يقدرون. نجح أهل نورنبرغ في محو أثر النازية في المكان وبقي أثرها في أذهان الآخرين.
تظل محاولة مغادرة التاريخ النازي مهزومة. كيف لـ12 عاماً أن تزن أكثر من 12 قرناً؟