أشباح الحزن

أشباح الحزن

16 نوفمبر 2023
فتىً فلسطيني يبكي أقاربه الذين قتلهم القصف الصهيوني، خانيونس، منذ أيام (Getty)
+ الخط -

تدورُ في عقلي كلمة "حزن"، والحزنُ يعني الأسى على مصابٍ ما، أو قد يكونُ شعوراً لا علاقة له بأسىً ملموس، لكنّه حالة وجودية تصاحبُ الإنسان، وتخفتُ وتطفو وهكذا. لكنَّ الكلمة التي تبدو، للوهلة الأولى، مفهومة، لها معانٍ متعدّدة في لغات سامية أُخرى. نذكر بعضاً منها هنا. فهي "الأرض المتعثّرة، أي من الصعب العيش عليها أو عبورها" في لغةٍ تَسبقُ لغةَ القرآن العربية. وهي باللغة الأمهرية "أن تمتلئ النفسُ بما لا يطاق"، وباللغة السبئية "أن تخرّبَ أو تدمّرَ شيئاً ما، ممّا يحدثُ حزناً". وهي "الرثاء والعزاء" باللغة التغرينية في إيثوبيا. وهي ما تشبه من "يؤمُّ صلاة الجنازة" باللغة العبرية. وقد تجذّرت كلمة "حزن" المعهودة بالعربية في اللغة الفارسية والتركية وآدابهما، وغيرهما من اللغات.

حين يتحدّثُ في أحد كتبه عن مدينته إسطنبول، يقفُ الكاتب التركي أورهان باموك عند كلمة "الحزن" باللغة التركية، وهي تقتربُ من دلالات "الاكتئاب" "والشوق لما مضى ولم يعد"، وذلك مع تطوّر العمران وحداثة المدينة، حيثُ تتكالب المباني بعضها على البعض، وتُخفي الماضي وفسحة العمارة وتعايش الحجر مع الشجر في هذه المدينة الفسيحة كثيرة الوجوه.

ما يهمّني هنا هو الحزن. والحزنُ على غزّة فلسطين بالتحديد. وبينما أهُمُّ بكتابة مقالٍ عن الحزن، تكتبُ ابنة أخي التي تعملُ مُمرّضةً في مستشفى "ناصر" بغزّة، وتقول: "من أوصاف الحزن في فقه اللّغة ’الوُجُوم‘، وهو حزنٌ يُسكتُ صَاحبه". ويفيدني الصديق الأستاذ أبو محمد من غزّة عند وصفه الحال: "رعبٌ باللّيل وخوفٌ وجوعٌ بالنّهار. هذا حالنا باِختصار". لا أعرفُ كيف أتقدّمُ بعدما ذَكره الأحباب سابقاً، لكنَّ لا بدَّ من ذلك التحاماً مع ما ذُكّرَ.

نكبة القانون الدولي، ونكبة المتفرّجين على فواجع الحزن الفلسطيني

هل نعرّفُ الحزن بطريقة جديدة تتّسعُ لفجيعتنا في غزّة وعموم فلسطين؟ غزّة التي يُفرضُ عليها الموتُ فرضاً، ويكتبُ عليها الحزن إلى أجلٍ غير مسمى. فلا شعر يطاوعُ مع الأمواتِ، وآهات الأطفال، وعذابات الناس والأرض من تحتهم، والسماوات من فوقهم، والحجارة وهي تتهاوى عليهم، والماءُ وهو يشحُّ في المآقي، والطعام يندرُ تحتَ وطأة الجوع والشقاء اللامتناهي. والهواء ينقصُ وينقبضُ ويتسمّمُ من حقد الأعداء وضرباتهم. والظلمُ وانحطاط حكومات الغرب. ترى هل تكونُ كلّ هذه معاني حزنٍ لمأساةٍ تستمرُّ وتستفحلُ وتُمعنُ في الاستمرار. أشكُّ في أنَّ للبلاغة مكاناً آمناً للتعبير عن الحزن. وكذلك اللغة، تباً للغة أمام الموت والنكبات المتتاليّة على الشعب الفلسطيني المظلوم من أوّل الكون إلى آخره. 

هل يكونُ الحزن الفلسطيني تشبّثَ الشقاء في القلبِ والذاكرة؟ لا بدَّ من تغريبة للحزن تليقُ بغزة فلسطين: الحزنُ في فلكِ فلسطين دموعٌ تسيلُ من كلِّ أروقةِ الجسد، وكلامٌ لا يرتقي لمستوى القول، ودمٌ محطّمٌ في الجسد، وأسرابُ يأسٍ في الروح. الحزنُ زؤامُ الموتِ يعشعشُ طيفه في عيونِ الأطفال وفي قلوبِ أمهاتهم. هو خوفُ القابعين خلفَ متاريس الجُبن، والتواء اللّغة على لسان ساكني البيت الأبيض وبعض إعلام الحضارات الغربية وتابعيها. الحزنُ مجزرةٌ في قلوبنا جميعاً، يتربّصُ بنا لحظة بلحظة، ونحنُ ننتظرُ مصائر أهلنا وأحبابنا وأمواتنا وقهرنا. الحزنُ هو عجز اللغة وصدمتها أمام نفسها. كم ستتطايرُ أنفسنا في أنفسنا ونحنُ نشاهدُ مدنَنا وأحبّاءنا يلفظون أنفاسهم الأخيرة ويشهدون مجزرتهم وعجزنا. الحزنُ هو البثُّ المباشر لموتِ الرحمة، هو سُعارُ القوة الغاشمة تفتكُ بالملاذ بأيِّ منطق. هو نكبة القانون الدولي، ونكبة المتفرّجين على فواجع الحزن. الحزنُ هو آخر الكلمات في رصيد اللغة المتعثّرة. الحزنُ مقاومة حرّة حتى آخر نقطة في الوقتِ والذاكرة. وهو أساطيرُ حياة المعذبين وصبرهم. الحزنُ أن نتجاوزَ حزننا…

يا ربّ،
هذا دمنا
فلا تصمتْ على اختلاطه بالدموع 
هذه دموعنا،
فلا تتركها لمن نهبوا منا الصلابة
هذا حزننا،
يمرُّ على كواكب الكون
حزنٌ لا يؤازرُ حزننا.

حين أفكّرُ في غزة فلسطين، تستحضرني مقولة للفيلسوف اليوناني إبكتيتوس، ولا أعرفُ إن كانت مناسبة لسياق كهذا، لكنّه أوصى أن تكتبَ على قبره، والأمرُ كذلك: "عبدٌ أعرج معوز، ولكنهُ عزيز لدى الآلهة".


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن)

المساهمون