تربطُ الشِّعرَ بالماء علاقةٌ وثقى طالما صخبت فيها الأبجديّة عن قرارِ الثبات، شوقاً إلى رحابة المجاز. فكم أغرى الماءُ الشّعرَ، بالأخصّ ذلك النّوع من الشعر المُستندِ إلى صلابة الأرض، وهذا حالُ الشعر العربي الذي حذِر من الزّرقة وعدَّها مساحةً للمجهول. من جهة مُقابلة، ألم ينسربْ من الماء بعضُ لطائفه عندما علّم الشّعرَ الوثبَ فوق القارّ من الاستعارات، فارتاحَ إلى اسم "البَحر" قياسُ العَروض في الشّعر العربي؛ عندها فقط استوى الماءُ مُحيطاً تامّاً يصونُ القصيدة من كلّ صوب.
يصحُّ التساؤل بعدَ كلّ هذا، كيفَ لشاعر أن يُقارِب البحر بشعره، أن يُناجزَه فرداً ويلتذّ بمواجهته عاطلاً من أيّ سلاح، سوى الامتزاج بعناصره. هذا هو حالُ الشّاعر السّوري نوري الجرّاح (1956) عندما خطّ مرثيّته "الخروج من شرق المتوسّط" في أيلول/ سبتمبر 2017؛ وهذا حالُه إنّما بجرعة أكبر من التّصميم، بعد أنِ استلهم الفنان السوري أسعد فرزات (1959) من مرثيّته تلك بناءَها الملحميّ، وأعاد تقديمها تشكيلاً بصريّاً موازياً في معرضه "حكايا مصوّرة من شرق المتوسط"، الذي افتُتح في صالة "أوروبيا" بباريس في العاشر من شهر آذار/ مارس، ويتواصل حتى الخامس عشر من نيسان/ أبريل الجاري. معرضٌ يتزامن مع إطلاق الجرّاح، في الغاليري نفسِه، بعد غد الخميس (14 من شهر الجاري)، الترجمة الفرنسية لـ"الخروج من شرق المتوسّط"، التي أنجزها أيمن حسن.
يقفُ الجرّاح في قصيدته على مطلعٍ محفوفٍ بالاستفهام، وعلى ذِكرِ سفينةٍ شَقّت ذات يومٍ صدرَ البحر بتحدٍّ، بحثاً عن أشفى الإجابات. إنّه سؤال افتتاحيّ يتذرّر في أسئلة شتّى ليست سوى عذابات شعب خُذِل وهو في عزِّ محنته، يقول: "ألأنّني قدتُ السَّفينةَ مرّةً/ يومَ فاضَ العماءُ ولم تعُدْ يابسةٌ هُناك/ ألأنّني اهتديتُ بالأُفقِ لأُنقِذَك من الهلاك/ ألأنّني عمّرتُ المدنَ ورفعتُ الأسوارَ وكتبتُ الرّسائل/ وأخرجتُ الرُّسلَ/ تكافئني/ بأن تُقفلَ عليّ اليابسة". ينتظمُ في مطلعٍ كهذا نسَقان من الإشارات، نسقٌ تآمري يتشاكلُ فيه الماء مع السّؤال المُعذِّب، ونسقٌ تأمّلي ينهضُ فيه الجوابُ مع القصيدة الشّافية، ثمّ تتهادى السّفينة بينهما رمزاً لعناء الرّحلة وطول الرّثاء. وبهدْيٍ من هذا الشّعر، يُقيم فرزات لوحاتِه اليومَ شواهدَ على الشّعر والرّحلة والبحر، فمتى ترسو السّفينة؟
يقف الجرّاح في قصيدته على مطلع محفوف بالاستفهام
نفّذَ فرزات اثنتي عشرة لوحة بالإكرليك على القماش، يظهرُ في إحداها إنسانٌ لا ملامح له، ووراءه مساحة لا متناهية من الرّماديّ بدرجاته المختلفة. ومن خلفِ الرّمادي تتوعّد العاصفة المهاجرين بالموت والهلاك، كأنّ اللّوحة ترجيعُ صدى الجرّاح إذ يقول في القصيدة الأمّ: "يَا لِي مِنْ مُبْحِرٍ فِي عَصْفٍ/ وَيَا لَيَدِي تَتَجَمَّدُ/ هُنَا/ فِي ضَوْءٍ غَارِبٍ". إذاً، مَن قال إنّ اللّوحة ليست ماءً أيضاً، ماء يراوغ أصولَه البَحريّة ليُساندَ القصيدة، وفي هذا ضربٌ من ضروب التّضامن الفنّي ما بين التّشكيلي والشّعري؛ بعد أن تعذّرَ التّضامن الإنسانيّ وتُرِك المهجّرون السّوريون وحدَهم يواجهون مصيرهم.
يرسم فرزات حكايةً لم تنقطع فصولُها خلال العقد الأخير، وشاهدها الجميع على وسائل الإعلام، في لحظة تخلٍّ من العالم بأكمله عن شعبٍ يهرب من المجزرة ليُلقي بنفسه إلى لجّة الأزرق المجهول. يكتب نوري الجراح: "أَقْبِلِي، يَا وُحُوشَ الزَّمَنْ/ هَا هُنَا يَكُونُ مَصْرَعٌ/ وَتَكُونُ قِيامَةٌ/ وَفِي حُطَامِ المَرَاكِبِ وَالأَصْوَاتِ/ وَخُرُوجِ البَحْرِ مِنَ المَرايَا/ وَانْفِراطِ السَّمَاءِ فِي الزَّبَدِ/ وَهُرُوبِ العَقْلِ مِنَ الصُّورِ/ الأُفُقُ هَشِيمٌ/ وَالمَوْتُ يُلَطِّخُ الصَّحَائِفَ.../ أَبَحْرٌ لزُرْقَةِ الأَزَلِ هَذَا أَمْ هاويةٌ في كُسُورِ الْأَلْوَاحِ؟".
من مؤسّسات القصيدة لدى الجرّاح التقاطُ المُفارقة التي صاغت واقع السّوريين الأليم، بَيْدَ أنّ حمولتها النصّية تكتمل من حيث أنّها رفدَت تعبيريّاً نصّاً آخر وتقاطعت معه، أي الّلوحة عند فرزات؛ حيث اللّونُ ــ بما هو ماءٌ ــ يُوظَّفُ أداتيّاً لتشكيل آلام الغرقى السّوريين وسط عماء نهشَ أجسادهم وأسماءهم. وإنْ تلاطمَ موجُ البحر بتلك الأجساد، فلا يكادُ الشّاعر يُذكّر بالمفارقة من جديد، بين بحرٍ كان عامراً بتجاراتهم وسفنهم، وبين هذا البحر، اليوم، وهُم لا يرجون منه إلّا النّجاة بأرواحهم، كما يقول أحد مقاطع المرثيّة: "لاَ تَقُولِي لِيَ شَيْئاً، لاَ تَقُولِي أَيَّ شَيْءٍ/ نَحْنُ فِي القِيعَانِ/ غَرْقَى/ بِرِئَاتٍ مَزَّقَهَا الهَوَاء".
تتكوّنُ معظم أعمال فرزات من بُقَع أو مربّعات أو انثيالات لونيّة، وهي بذلك تعكسُ ظلّ القصيدة الأمّ بما تحمله من تشظٍّ وقلَق يعتريان الجموع المحتشدة الذّاهبة إلى مصائر مجهولة. كما تجسّد أمواج البحر الهادر وغضبة الرّياح، وكأنها جميعها فسيفساء متناثرة وسط الخراب. بمعنى آخر، إنّ اللّوحة والقصيدة لا تُظلّلان بعضهما بالمعنى المُباشر فحسب، بل تحدّقان ملءَ العين بعالمٍ لطّختهُ حمرة الدّم التي تخترقُ جدار التّاريخ.
يوظَّف اللون، بوصفه ماءً، لتشكيل آلام الغرقى السّوريين
وهنا تجدرُ الإشارة إلى أنّ مرثيّة الجرّاح، "الخروج من شرق المتوسط"، تنتمي إلى مجموعة شعرية من أربع مرثيّات، وسَمَها عنوانٌ أكبر: "نهرٌ على صليب"، وهذا فيه ما فيه من إحالاتٍ رمزيّة إلى السياسة كما التاريخ، وخلفيّتهما الضاجّة بأصوات المنتفضين بوجه جلّاديهم. هكذا تتماهى اللوحة مع القصيدة في تصوير نكبة السوريّين في القرن الحادي والعشرين. ألوانٌ صاخبة وداكنة تُحيلُ إلى لجّةٍ لا قرار لها، أزرق يبتلع أجساد اللّاجئين ويكتم صرخاتهم في أعماقه، ومثله تفاصيل اللّوحات حين يتجرّدُ فيها حضور البشر، ويتكثّفُ العدمُ أمواهاً ثقيلةً تُحيلُ إلى تلك اللّازمة التي وقّعَ بها الشّاعر نهاياتِ مقاطع المرثيّة: "كانَ أنْ كنتُ ولم أكُنْ".
تساؤلٌ أخير يبقى عالقاً: ما مصير سفينة المَطالع التي شحنَها الجرّاحُ بالاستفهام، وإنْ كانت لوحات فرزات تحيرُ جواباً عن هذا. للوهلة الأولى، يبدو أنّ لا برّ ولا شاطئ قريبٌ قد يُرسَى عليه، فالأزرق لون ثقيل يفيض بالألم، ولكنّ إمعاناً للنظر في لوحة فرزات يحوّلها نافذةً يطلّ من خلفِ ألوانها ناجٍ غريبٌ وطأ أرضاً ما، وتخفّفَ من أعباء المجزرة. هنا يعودُ الأملُ بوصفه مرسى وحلماً بعد كلّ تخبّط، يتشبّث به النّاجون في تذكارهم المدن والقرى السورية التي خلّفوها وراءهم، بكلّ ما أوتيَ الغُرباء والمنفيون من حنين. وكذا يختم الجرّاح مرثيّته قائلاً: "غَدِي جَاءَ بَاكِراً، فَلاَ تَنْتَظِرْنِي وَلاَ تَتَأَخَّرْ كَثِيراً/ خُذِ الْأَلْوَاحَ وَاخْرُجِ الآنَ/ أَنْتَ شَمْسُ مَنْ مَرَّ هُنَا، وَظِلُّ مَنْ مَرَّ هُنَاكْ".