أرتيميس سكويوذي.. مُراجَعة يونانية للفتح العثماني

10 أكتوبر 2023
أرتيميس سكويوذي
+ الخط -

لم يكن الفتح العثماني الذي امتدّ على ثلاث قارّات، وأثمر إمبراطورية واسعة، سابقةً أو بدعةً بل سبقته فتوحات أُخرى وأعقبته فتوحات جديدة بأسماء مختلفة بعد اكتشافات العالَم الجديد (أميركا) وأعماق أفريقيا،التي غيّرت صورة العالَم. ولكنّ الفتح العثماني يحظى بسرديات مختلفة ومتناقضة تتراوح بين التمجيد بوصفه فتحاً إسلامياً، والتنديد بوصفه مُدمِّراً لحضارات وكيانات كانت لها مكانتُها في ذلك الوقت.

وبالمقارنة مع السرديات العربية، التي تتّسم بالتعميم والتسييس حسب الأوضاع المُستجدة، نجد أن السرديات البلقانية لا تختلف كثيراً مع الفارق بطبيعة الحال. فالتوسّع العثماني، نحو الشمال والغرب (البلقان)، كان قد أدّى بعد سبعين سنة من تأسيس الإمارة العثمانية إلى نقل العاصمة العثمانية إلى البلقان (أدرنه)، بعد أن تحوّلت السلطنة العثمانية إلى إمبراطورية بغالبية مسيحية ضمّت عدّة شعوب (البلغار واليونان والألبان والصرب وغيرهم). وبعد عدّة قرون من الحُكم العثماني بقيت شعوب البلقان في غالبيتها مسيحية، بينما انتشر الإسلام ببطء في البوسنة وألبانيا ليشمل غالبية السكّان هناك، وهو في حدّ ذاته مؤشّر مُهمّ على عدم وجود نهج رسمي لنشر الإسلام ليعمّ شعوب المنطقة. وفي الواقع كانت الدولة العثمانية في مرحلة القوة لا تتحسّس من ذلك، لأن الجِزْية على المسيحيين كانت تُدفع نقداً بالذهب وتُشكّل مصدراً مُهمّاً لميزانية الدولة.


مراجعة التاريخ

ولكن مع ضعف الدولة العثمانية وتحوّل أوروبا من الدفاع إلى الهجوم، سيبرز التنافس بين القوى الأوروبية (روسيا والنمسا والبندقية) على اختراق الوجود العثماني في البلقان عسكرياً وفكرياً وثقافياً، بما في ذلك تشجيع شعوب المنطقة على الانتفاضات والثورات تحت غطاء أيديولوجي/ قومي لتشكيل كيانات جديدة تخدم القوى المتنافسة للوصول إلى بحر إيجة في المتوسط. وفي هذا السياق كان لا بدّ للأيديولوجية القومية من عدوٍّ ومن بطل أسطوري لتنمية الهوية القومية الجديدة. ولكن هذه القوميات البلقانية سرعان ما تشابكت مع بعضها بعد تلاشي العدوّ المشترك (الأتراك) في 1913، وبقيت تلك الحساسيات حتى الآن تحكم المنطقة.

إبراز موضوعي لطبيعة الحُكم العثماني بعيداً عن النمطية

من بين هذه الدول كانت صورة الحُكم العثماني أكثر سوداوية في صربيا واليونان، التي ارتبطت الهوية القومية فيها بشكل وثيق بالكنيسة الأرثوذكسية. وإذا كان هذا الارتباط قد أفاد حتى الاستقلال هنا وهناك، إلّا أنه بقي بشكل عام مرتبطاً بالتطوّرات السياسية اللاحقة. ومن ذلك نجد نوعاً من التقارُب بين تركيا الكمالية وصربيا (يوغسلافيا) خلال فترة ما بين الحربين العالميّتين لبروز مصالح مشتركة، بينما تفاقم التوتّر بين اليونان وتركيا الكمالية بعد تورّط اليونان في حرب 1922 التي أدّت إلى مرارة كبرى بسبب خسارة الحرب وتدفّق مئات الآلاف من المهاجرين اليونانيّين من تركيا إلى اليونان بعد عام 1923، وامتدّت هذه المرارة بعد الانقلاب العسكري على حكومة الأسقف مكاريوس في 15 تموز/ يوليو 1974 الذي أعقبه تدخُّل تركيا العسكري في شمال قبرص، وتأسيس "جمهورية شمال قبرص التركية".

وفي هذا السياق يُلاحَظ أنّ الصورة السوداوية للحُكم العثماني في صربيا بدأت تخفُّ في السنوات الأخيرة، وهي السنوات التي شهدت تطوُّراً ملحوظاً في العلاقات التركية - الصربية على الرغم من الخلاف بينهما حول كوسوفو، وبدأت تصدر دراسات جديدة تقدّم صورة مختلفة أو أكثر موضوعية عن الحُكم العثماني للصرب. أما فيما يتعلّق باليونان فقد بقيت الصورة السوداوية واحدة في الكتب المدرسية وفي الشارع بسبب التوتّرات المتواصلة بين تركيا واليونان، ولكنّ الدراسات الأوروبية حول الحُكم العثماني لليونان أبرزت المسافة الكبيرة بين الصورة الموروثة منذ قرنين تقريباً وبين الصورة الموضوعية التي تُقدّمها الدراسات الأوروبية الجديدة، ومن ذلك كتاب المؤرّخ البريطاني ديفيد برور "اليونان 1453- 1821: القرون الخَفيّة" (2010).


"استعباد" اليونان استمرّ ألفَي عام

ويبدو أنّ هذا الكتاب وغيره أخذ يُبرز مقاربة جديدة عند بعض المؤرّخين اليونانيين، ومنهم المؤرّخة أرتيميس سكويوذي المتخصّصة في تاريخ أثينا، التي نشرت حوالي عشرة مؤلّفات، منها كتابُها عن المقاهي والمسارح في أثينا، وهو الذي ارتبط بفترة الحُكم العثماني. فقد أجرت معها جريدة "ليفو" اليونانية، مؤخّراً، لقاء بمناسبة صدور كتابها الأخير عن الحيّ الأقدم في أثينا "بلاكا"، وهو اللقاء الذي أعادت نشره الجريدة الألبانية "تيما"، في الثامن من الشهر الماضي، نظراً لعلاقته مع الدول المجاورة لليونان.

تنأى عن التعميم وتُميّز بين مراحل قوّة وضعف السلطنة

بالنسبة للحُكم العثماني في اليونان الذي يُوصف بـ"الاستعباد" في الكتب المدرسية، تنطلق سكويوذي من أنّ معاناة اليونان من "الاستعباد" بدأت منذ الفتح الروماني للبلاد عام 164ق.م، وهو الفتح الذي ارتبط بإغلاق المدارس الفلسفية و"رَوْمنة" السكّان بإطلاق اسم "الروم" عليهم، ومنعهم من ارتداء الزيّ اليوناني القديم المميّز لهم، حيث أخذ اليونانيون يلبسون مثل شعوب البلقان المجاورة ومن ذلك "الفستانيلا". وعلى الرغم من الديانة المشتركة (المسيحية) إلّا أنّ الانقسام بين الشرق والغرب جعل من الأرثوذكسية هوية مميّزة لليونانيّين، ولذلك تعتبر سكويوذي أن "فتح الفرنجة" الكاثوليك لليونان كان أسوأ، ومن ذلك بشكل خاص "فتح البندقية" التي حكمت بعض مناطق اليونان أكثر ممّا حكمت الدول العثمانية، حيث تصفه المؤرّخة بأنه "الأسوأ".


السلطان محمد الفاتح مُنتشياً في أثينا
 
ضمن المراجعة النقدية للحُكم العثماني، تنأى سكويوذي عن التعميم، إذ تُميّز القرنين الأولين للحُكم العثماني، حين كانت فيه الدولة في أوج تطوّرها، عن القرنين الأخيرَين، حين اتّسمت الدولة بضعف المركز وانعكاس ذلك على الولايات التي زاد فيها العبء على السكّان والتمرّد على الوضع القائم.

وضمن هذا التمييز تذكر المؤرّخة كيف أن أثينا بقيت حبيسة داخل السور الروماني إلى الفتح العثماني، حين تنفّس سكّان أثينا الصعداء، وأخذوا يخرجون للسكن خارج السور لتتوسّع بذلك المدينة. وضمن السنوات الأُولى للحُكم العثماني تُبرز المؤرّخة زيارة السلطان محمد الفاتح الذي جاء أثينا بعد سنتين من الفتح، أي في نهاية تموز/ يوليو 1458م، وتجوّل في "الأكروبوليس" منتشياً وهو يتطلّع إلى الآثار القديمة بحُكم معرفته باللغة اليونانية التي ورثها عن أمّه وجدته واهتمامه بالحضارة اليونانية القديمة.

معاناة اليونان الحقيقية بدأت مع الرومان ثم الفرنجة

كان القرنان الأوّلان للحُكم العثماني "جيّدَين جدّاً لأثينا"، حسب المؤرّخة، لأن السلطان محمد الفاتح منح سكّان أثينا امتيازات خاصة استمرّت من بعده. كان المهمّ بالنسبة للسكّان هو انتهاء "الكابوس الكاثوليكي"، بعد أن حوّل الفرنجة الكنيسة الكبرى (البارثنون) إلى كاتدرائية كاثوليكية ودعموا نشر الكاثوليكية في البلاد، لأن العثمانيين كان من مصلحتهم أيضاً أن تكون اليونان أرثوذكسية بالكامل لأن الدولة العثمانية كانت على صراع مع الدول الكاثوليكية (المجر، والنمسا، والبندقية)، ولذلك كانت تأمن أكثر للأرثوذكس.

في هذا السياق تُبرز المؤرّخة تسامُح العثمانيين مع بناء الكنائس والمدارس. صحيح أنّ الكنيسة الكبرى (البارثنون) حُوّلت إلى جامع بعد رحيل السلطان محمد الفاتح، ولكنّ المؤرّخة تعترف بأنّ العثمانيّين لم يُمانعوا في ترميم أو بناء الكنائس بأثينا، حتى أنها تقول إن "معظم الكنائس الصغيرة الموجودة في أثينا، اليوم، تعود إلى العهد العثماني". وفيما يتعلّق بالتعليم، الذي تركته الدولة العثمانية حتى النصف الثاني للقرن التاسع عشر بيد المبادرات الخاصة للسكّان، فقد كان في البداية يتبع الكنيسة الأرثوذكسية التي حظيت بصلاحيات كبيرة، ولكن مع التطوّر الاقتصادي والتجاري في القرنين الأولين للحكم العثماني، برزت طبقة جديدة متنوّرة في المجتمع اليوناني بادرت إلى تأسيس مدارس "سمحت لأولاد أثينا بتعلُّم القراءة والكتابة".

في السؤال الأخير للمؤرّخة عن كتاب ديفيد برور المذكور "اليونان 1856-1821: القرون الخَفيّة" الذي ورد فيه "أن الفتح العثماني لليونان كان الألطف من كلّ الفتوحات"، تُوافق المؤرّخة على ذلك مع أنها تُضيف، لاحقاً، "كلّ الفاتحين سواء" و"لا يوجد فاتح جيّد وفاتح سيّئ"، دون أن يلغي هذا التمييز بينهم بطبيعة الحال.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

المساهمون