"عندما حطّت طائرتي قبل سبع سنوات في مطار روما، قادمةً من الجزائر العاصمة، ومنه إلى تورينو، أدركتُ أنّ البحر والمزاج المتوسطي ليسا هما فحسب ما يجمعان إيطاليا بالشعوب العربية، كما درجنا على القول، وإنما حسٌّ فطريّ أعمق بكثير، يتجاوز ما هو جغرافي ونمطي، ويدلف إلى صميم ما هو إنساني: الإحساس بالجمال"، بهذه الكلمات تقدّم الروائية والمترجمة الجزائرية أمل بوشارب (مواليد دمشق عام 1984) لـ"أرابسك"؛ السلسلة نصف السنوية التي تُديرُها وتشرف على تحريرها، والمختصّة بالأدب والفنون في العالم العربي، وتصدر ورقياً باللغة الإيطالية عن دار Puntoacapo Editrice.
نزور في هذه المقالة موقع السلسلة الإلكتروني www.arabesquemag.com للتعرّف عن كثب على أبوابها ومنجزها الأدبي، والأقلام المُساهِمة فيها، منذ صدور العدد الأول منها في صيف 2021.
تُطالعنا ونحن نتصفّح الموقع - المُتاح بالعربية والإيطالية - الواجهة الرئيسية التي تضمّ آخر المقالات المنشورة؛ وهي بسيطة التصميم، في حين تظهر فيها مجموعة مقالات العدد الرابع الذي صدر مؤخّراً. ويُشار إلى أنّ بوشارب تحرص على توقيع الافتتاحيات، ومن خلالها تُضيء الملفّ الرئيسي لكلّ عددٍ ومحتوياته، ولكنْ يُقتصر في الموقع الإلكتروني على نشر جزء من الافتتاحية، وتُتاح كاملاً ضمن المطبوعة الورقية، وإنْ كانت هذه المختصرات أحياناً تظهر وكأنها مُقتطعة، فالأفضل أن يُستفاد من هذه المساحة الإلكترونية العمومية، وتُقدّم مُلخّصات أوضح عن الموادّ.
تُعدّ المجلّةَ الأُولى من نوعها في المشهد الإيطالي
ومن تصنيفات الموقع التعريفية خانةٌ أساسية عنوانها "من نحن؟"، وفيها تُتابع صاحبة "سَكَرَات نجمة" (2015) رحلتَها في تفسير "أرابسك" (الاسم الأوروبي لفن الرقش)، ولماذا اختارت هذا الاسم بالذات، فتكتب: "دخلتْ لفظة أرابسك إلى المعاجم الإيطالية كنايةً عن أسلوب مُعيّن في العزف على البيانو في الموسيقى الكلاسيكية، يُحاكي الزخرفات العربية، وكذا خطوة الأرابسك في رقص الباليه، والمُستوحاة من أُسلوب الفنّ العربي الذي كان يَفرض في أوج ألقَه قوانينَ جمال مُختلفة، غدت بعدها جزءاً لا يتجزّأ من أساسيات الفنّ الغربي".
تلتقط بوشارب الجماليَّ والمُشتركَ بين الثقافتين، وتبني على إيقاع ذلك فهماً لما ينبغي أن تكون عليه عملية التثاقُف، تُضيف: "تأتي سلسلة 'أرابسك' الإيطالية لتشرع أبواب الجمال بين ضفّتي المتوسّط على بعضها، وتسلِّط الضوء على مَواطن الرقّة التي تجمع شعوبنا، مُنتقيةً أرفع مراتب التعبير الإبداعي في ثقافتَينا، واضعةً إيّاها بين دفّتي إصدار منوّع يأتي على شكل مجلّة هي الأُولى من نوعها في إيطاليا للتعريف بالأدب والفنون العربية، وبُعدها الحضاري المنغزل بالثقافات المحيطة بها".
صدرت من المطبوعة إلى الآن أربعةُ أعداد، ويُتيح الموقع الإلكتروني التعرّف على موضوعاتها والكتّاب المُشاركين فيها، والنصوص الأدبية المنشورة فيها من شعر ورواية وقصّة قصيرة ومسرح وغيرها، وإنْ كانت المقالات الكاملة تصدر في المطبوعة. ولكنّ اللافت أنّ كلّ الجوانب الحضارية الملموسة في معيشة العرب والإيطاليّين هي محطّ درس في "أرابسك"؛ فلا يقتصر الأمر على الأدب والفنون بالمعنى المُباشر، بل يتعدّى ذلك إلى التقاطعات الأنثربولوجية والتحليلات الثقافية حول الطبخ والتراث والسينما والحياة اليومية العادية. وهذا ما يمكنُ ملاحظتُه من عناوين الملفّات الرئيسية التي احتوت عليها أعداد "أرابسك": "الحبّ بعيون عربية"، و"أثر الإسلام في الحياة الثقافية والفكرية العربية"، و"دور المرأة في الحياة الثقافية والفكرية العربية"، و"السرد العربي المعاصر".
نصل إلى التصنيف الأبرز في الموقع؛ "كتّابنا"، حيث نستطيع التعرّف على فريق العمل من مُستعربين إيطاليين ومترجمين عرب، وحقيقةً نقول: عسانا نفي أعضاء هذا الفريق، في هذه الزيارة الصحافية، ما يستحقّون، وذلك لجليل خدمتهم للضادّ وطول مِراسهم في معالجة آدابها. وعلى رأس هذا الفريق نقرأ اسم يولندة غواردي؛ أستاذة الأدب العربي في "جامعة تورينو"، ومدرّسة الترجمة في "المدرسة العليا" بميلانو، ومديرة سلسلة الترجمات العربية في دار Jouvence، إلى جانب ترؤّسها مركز دراسات Ilà، وهو أوّل مشروع للحصول على شهادة في اللغة العربية بالمعايير الأوروبية. كذلك يحضر أليساندرو بيرتوزا، الكاتب والشاعر والمؤلّف المسرحي ومدرّس الفلسفة والأنثروبولوجيا الفلسفية في معهد ISSR بأنكونا، وأنطونينو ديسبوزيتو؛ مترجِمُ الأدب العربي المعاصر، وهو صاحب اشتغالات بحثية رصينة حول الفيلسوف العربي أبي يوسف يعقوب الكندي.
يضمّ الفريق أيضاً كلّاً من: إينريكا أنطونيني؛ المكتبية والمدوِّنة الأدبية الحاصلة على ليسانس في الوساطة الثقافية من "جامعة جنوة" بتخصّص عربي ـ إسباني، والمترجمة باربرا بنيني، والباحثة باولا روسي؛ خريجة قسم اللغات الأجنبية والآداب في "جامعة ميلانو"، والخبيرة في تاريخ وآداب البلدان الأفريقية الناطقة بالفرنسية والبرتغالية، وباولو غونزاغا؛ الذي اشتُهر بترجمته "تفسير الجلالين" إلى اللغة الإيطالية، ويدرّس اللغة العربية في "الجمعية الإنسانية والإسلامية"، وأستاذ الترجمة في معهد SSML Limec في ميلانو حسين بن شينة، وروزانا مريم سيرينيانو التي أسّست أكاديمية MaryamEd Transcultural Training المتخصّصة بتعليم اللغة العربية في إيطاليا، والمترجمة سارة لامبيرتي والباحثة في شؤون تاريخ السينما سيمونا تشيللا.
باحثون ومترجمون يشتغلون على تراث العربية وحداثتها
ومن أعضاء "أرابسك" أيضاً: المخرجة والمسرحية سيلفيا ريغون، والباحثة والمترجمة فالنتينا بالاتا، والشاعرة فريدا نيري، والقيّمة الفنّية فلافيا مالوزاردي، والمترجمة والمستعربة فيديريكا بيستونو، والباحثتان كيارا ماريا فرانشيسكا ناني، ولويزا فرانزيني والناشطة الثقافية ليلى القارصي، والمتخصصة بالثقافتين العربية والإسبانية ناديا روكيتي، والباحثة والمترجمة المصرية نجلاء والي، إلى جانب كلّ من الأستاذ في "جامعة إسطنبول - إيدن" أحمد عمر، والكاتب والمترجم السوري يوسف وقاص الذي كتب عدة أعمال قصصية وروائية باللغة الإيطالية.
بعد كلّ هذه الأسماء، يُمكن القول إنّ "أرابسك" علامة فارقة في راهن التواصل الثقافي العربي - الإيطالي، إذ لم يسبق أن اجتمع هذا الكم في مشروع واحد. ونحن إذ نكتب هذا هنا، لا لنضيء مُنجزاً وحسب، بل لنلفت إلى ضرورة اغتنام هذه الفرصة من أجل تقديم الدعم بأنواعه لهكذا مشروع. فلو تحدّثنا عن المؤسسات الثقافية العربية، حريٌّ بها أن تفتح قنوات التواصُل وتبادُل الخبرات مع القائمين عليه، وتُسهِّل الإجراءات البحثية أمامهم، إلى جانب تأمين التغطية المادية - لو تطلّب الأمر - للمؤتمرات أو الندوات التي من شانها رفده وتطويره، والاستثمار - وكذلك التعلُّم - بهذا الجهد والتنظيم.
أمّا لو تحدّثنا عن وسائل الإعلام المَعنيّة بالثقافة العربية: مرئية ومسموعة ومقروءة، فالأجدر أن تنفتح على أمثال هذا المشروع، ولعلّها بذلك تكفّ - ولو قليلاً - عن رصد "إنجازات" وزارات الثقافة، وعن إغراق الفضاء العامّ بكلّ ما هو محدود في موهبته ولُغته.
بكلماتٍ أخيرة، كما أنّ "أرابسك" مِحَكٌّ لأدوات صانعيها: نُقّاداً ومترجمين ومُستعربين، واشتغالٌ دؤوب على مفهوم التثاقُف والبناء مع الآخَر، فإنّها تتيح لقارئها الإيطالي توسيع معرفته بالثقافة والأدب العربيّين، والإطلال على مختاراتٍ ونصوص نوعية عبرت من جنوب المتوسط إلى شماله. وهي أيضاً تذكيرٌ، بشكل أو بآخر، بمقولة عربية عزيزة: "اختيارُ المرء قطعةٌ من عقله".