"على أن قُربَ الدار"... كذا صارت تحكمُ المسافاتُ حيواتنا نحن السوريين، نقيس الألم بمقدار القُرب والتنائي، مع أنّ الأمر لم يكن بحاجة لكارثة طبيعية أخيرة تؤكّد، أو نثبت من خلالها، مدى تعلّقنا بتلك الدار ومَن فيها، بعد سنوات خارجها كادت تُصبح دهراً لا نهاية له. ولا كنّا بانتظار برهان يأتينا عند الثالثة من فجر الإثنين، السادس من شباط/ فبراير 2023، بتوقيت بيروت، ليجعل من مساحات الليل أضيق فأضيق. ليلُنا أيضاً محكوم بالمسافة، هو مكانُ إقامتنا، وأكثر مِن أن تنطبق عليه صفات الزمن المتبدّل. إنّا نقلّبه بين أيدينا منذ أزيد مِن عشر سنوات، وما حسبنا انقلابه هذا.
■
الثالثة فجراً على صفيحة تكتونية تركية - سورية آثرت أن تُحيّد لبنان من نصيبها هذه المرّة، بعد أن حدّدته بميقاتٍ خاصّ قبل عامين ونيف: السادسة من مساء الرابع من آب/ أغسطس 2020. وما بين التوقيتين ليس أقلّ من جائحات وزمانٍ مثقَلٍ بالطُّغم والمتسيّدين، وهجرات محمولة على ما يُتيحه المتوسّط من أمانٍ مغدور، وقوارب مظلّلة بالموت، وإنْ كان موتاً دونه أصناف وأصناف تُعبَّأ بها البلاد.
■
أديم الأرض واحد ومن هذه الأجساد... لم يقلها عبثاً صاحب "اللزوميات". وبِغَضِّ النظر عن ساعةٍ تنزاحُ فيها الصفائح لتُخلخل عظام مَن آوى إليها. ربما الأرض مثلنا أيضاً، محكومة بالمسافة، بالنأي والقُرب، بالجِوار، سيّئه وحَسَنه، ومزيج بين هذا وذاك يتكفّل بتدويرها، ويقلّب ما فيها أحوالاً وأقداراً. بهذه الطريقة، إذاً، شعرنا بالزلزال، هنا في لبنان. أديمٌ نقف عليه ونتشاركه، يُشَدّ من إحدى الجهات القريبة/ البعيدة، وباستعداد مسبَق وحاضر دائم أنّ فجيعةً ما ستحدث، ولو أنّ النصيب منها لن يُجاوز الثلاثين ثانية. إنه ضربٌ من "الحمدُ لله" التي قالها السري السقطي مرّةً بعد أن اشتعلت محالّ في بغداد بالنيران، ولم تُصِب شيئاً له، فقال ما قال، إلّا أنه شفعها بثلاثين عاماً من "أستغفر الله"، إذ أحسّ أنّ سياق الاستثناء اللغوي والوجودي من الكارثة ليس جوابه في الحَمْد وكفى!
لن يضعنا الزلزال أمام "حياة عارية" دخلناها قبل عقد
■
أسّست تجربة الجائحة قبل ثلاث سنوات، وبوصفها شكلاً من الكوارث الطبيعية أيضاً، لقولٍ فلسفي جديد في النظر إلى الكوارث؛ يحتوي على شيء من السياسة الحيوية وهوامش إضافية عليها، ربما تمثّلت بشكل بارز في جدالات السلوفيني سلافوي جيجك والإيطالي جورجيو أغامبين، وأُحِلنا مرة أُخرى إلى طبعة جديدة من "الاستثناء" (السياسي) و"الحياة العارية"؛ مفاهيم تفسّر موقعنا كبشر من السياسة قبل الطبيعة.
لا شك في أنّ نقاط تقاطُع كبيرة تُمكنُ ملاحظتها وستبدو مع الوقت عند المقارنة بين الكارثة والجائحة، أمّا الحديث عن حالة "كوكبية" في سياق الزلزال الأخير فكفيلة بإثباته الأيام المقبلة، إذ لا يُمكن أن نتجاوز ما راكمته السنوات من سياسة وحروب حفرت بعُمق أساسات للحياة العارية. وأمّا إنْ كانت الكوارث تستوعب "بُعداً تقدّمياً"، أو دافعاً إلى الأمام (تحدّياً) على مستوى التقنية وتطوّرها، أو حتى الطبي كتحدّي الوصول إلى لقاح مثلاً، فمَن يضمن أن تكون كذلك على المستوى السياسي والتحرّري؟
■
في عالم الاستعارات، لم يكن نصيب الزلزال قوياً، فهو مبذولٌ للمراحل الأولى، وأيّ مُمارس للّغة يحذر من الاتّكاء عليه في التوصيف. إنه البلاغة القديمة والتورية الفائتة، هشٌّ ولا يحمل من دلالات التمكُّن شيئاً. كذلك أقصَتْه اللغة، رغماً عن واقع الطبيعة الذي يقول غير ذلك.
* كاتب سوري مقيم في لبنان