أدب فلسطين.. مساحة في برلين

25 اغسطس 2022
"الحرّية لفلسطين"، في غرافيتي ببرلين، 2014 (Getty)
+ الخط -

نادراً ما يكونُ هناك مؤتمرٌ مُكرّسٌ للأدب الفلسطيني في البلدان الغربية. فعادةً ما تكونُ هناك مؤتمرات أو ندوات سياسية، أو إشهار لكتب. وحتّى مثل هذه المؤتمرات والندوات بدأت تقلّ، وهي إن حدثت، فإنها تحدث بحذرٍ شديد، وذلك في ظل التغوّل الكبير في الفضاءات الثقافية الغربية ضدّ القضية الفلسطينية. فتُهمة معاداة السامية، الجاهزة، والمدمِّرة بآثارها على سمعة وأرزاق الناس، تكاد تُستخدَم ضدَّ أيّ شخص يقترب من نقاش القضية الفلسطينية من منظور عدالتها ومعاناة الشعب الفلسطيني وقهره، وعدم شرعية الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، الذي يتمدّد ويتعمّق بشكلٍ مُفزع.

وتساعد الاحتلالَ الإسرائيلي وأدواته في هذا مراكزُ صنع قرار غربية، وكثير من أجهزة الإعلام المؤثّرة، بحيث أصبحت الثقافة الغربية، بشقّها الرسمي، على عداء مع قضية الشعب الفلسطيني، بسبب الخوف من الاتهامات الجاهزة باللاساميّة التي تُطلَق على كلّ مَن يُحاول أن يجهر باسم فلسطين ويرفع قضيّتها. ومن نافل القول إنّ اللاساميّة ليست للفلسطينيين وقضيّتهم أي صلة بها، ولا يمكن أن نتحدّث عنها في السياق الفلسطيني والعربي إلّا في الإطار الأوسع للمشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين. إذن، هي شمّاعة لتهميش القضية والتشويش عليها، بحيثُ يستفرد الاحتلال بالشعب الفلسطيني ويبقى أبناؤه بين الحصار واللجوء، ويصبح أيّ عمل نضالي مشروع ضدَّ الاحتلال منبوذاً.

من الأحداث التي تخطّت هذا الوضع مؤخّراً، المؤتمر الذي عُقد في برلين، على مدار يومين، أواخر الشهر الماضي، في "جامعة برلين الحرّة" وبدعم من "اللجنة الأوروبية للأبحاث"، لدراسة ومناقشة الأدب الفلسطيني. وقد أدارت مُنَظِّماتُ المؤتمر ــ الباحثات الثلاث: رفقة أبو رميلة، وصوفيا براون، ونورا بار ــ الجلسات بجدارة تستحقّ الإشادة. أمّا مواضيع المؤتمر، فتراوحت بين تأريخ الأدب الفلسطيني والعودة إلى جذوره قبل النكبة، وتتبُّع مسار تطوّره وطرق دراسته. وضمن هذا الجهد يتمّ العمل على أرشفة الأدب الفلسطيني، وخصوصاً التاريخي منه، ضمن مشروع أُطلِقَ عليه "بال رييد"، بالإنكليزية، أي "فلسطين تقرأ".

صعوبة الوصول للأرشيف تعيق التأريخ لأدب ما قبل النكبة

وأشارت رفقة أبو رميلة إلى صعوبة أرشفة كلّ المواد الأدبية من فترة ما قبل النكبة، لصعوبة الوصول إلى كلّ المصادر، لكنّ هناك جهداً حثيثاً يقوم به كثير من الباحثات والباحثين في سبيل هذا. وقد افتتح الباحث المصري إبراهيم عبده المؤتمر بإعطاء نبذة عن محتوى مشروع "فلسطين تقرأ"، وأشارَ إلى ظهور الأدب الفلسطيني في سياق الاحتكاك بـ"الانتداب البريطاني"  (الاحتلال الإنكليزي بين 1917-1948)، ومن ثمَّ الاستيطان الصهيوني، فالنكبة.

وقد ظهر وانتشر ما سمّاه عبده "أدب المقالات"، وليس "أدب الكتب"، وكَثُر الشعر أيضاً، كما كثرت أجناس أدبية أُخرى آنذاك في صحف مثل "الرسالة"، و"الهدف"، و"المهماز"، و"الغد"، و"القافلة"، و"المنتدى". وكانت هذه المجلّات أيضاً مشغولة بمسألة النهضة العربية، وإذا ما كانت فلسطين جزءاً منها أم أن حالتها خاصة، وأدبها يعكس تلك الخصوصية. 

وهناك مواضيع أُخرى أثْرت أيضاً النقاش، تتعلّق بالأدب الفلسطيني لدى كتّاب المنفى، فهؤلاء أيضاً ينتمون أحياناً إلى خلفيات متنوّعة، ما يطرح أسئلة عن قضية الهوية في أعمالهم، كالكاتبة التشيلية الفلسطينية لينا مرواني. فالكتابة هنا تدور حول سؤال: "أيّ الطرفين يحتاجني أكثر؟"، أي أن التفاعل مع أحداث في فلسطين يحفّز تفكيراً أدبياً وإبداعياً، في ظلّ الكبت الذي يُفرَض على الفلسطينيين في بلدانٍ كثيرة في الغرب. وإلى جانب ذلك، هناك مواضيع تغطّي جوانب نظريّة أو ظواهر أدبية غير معتادة، مثل البحث في طبيعة الواقعية السحرية في الأدب الفلسطيني، وتعايش الحيوان والإنسان داخل قصص فولكلورية لها دلالات اجتماعية أو سياسية. 

أمّا الباحثة حنان الناطور، فقد تطرّقت للكتابة الأدبية والنقدية عن الأدب الفلسطيني خلال فترة وجود منظّمة التحرير الفلسطينية في تونس، وعلاقة تلك الكتابة بالمحيط المغاربي، سواء في تونس أو الجزائر.

ومن المواضيع اللافتة أيضاً طُرق استقبال بعض أنواع الأدب الفلسطيني من قِبَل الجمهور الغربي، حيث أشارت الباحثة صوفيا براون إلى كتابات رجا شحادة، وطُرق اختزالها وتحويرها في الجرائد والمجلّات الغربية بصور تتناسب والأيديولوجية الغربية الصامتة، بل المتواطئة مع الاحتلال الإسرائيلي، بحيث كثيراً ما تُفرّغ الكتابات المذكورة من محتواها السياسي، ويُستبدل ذلك بالتركيز على السلام والعاطفة الإنسانية؛ وإلى ما هنالك من عبارات بعيدة كثيراً عن التفاعل مع القضية الفلسطينية والمطالب العادلة للشعب الفلسطيني. 

وتطرّق بعض الباحثين إلى المسرح الفلسطيني وضرورة أن يجتذب الاهتمام اللازم، فهناك مسرحيات تاريخية وحديثة، وقد ذكرت هلا ناصر وسامر الصابر أهميّة تتبُّع المسرح الفلسطيني وتطوّره في السياق المحلي والإقليمي والدولي، وتطرّقا إلى الإهمال في دراسة المسرح الفلسطيني، بالرغم من أهميته الفنيّة والثقافية. أما الباحثة أمل عقيق فقد تحدّثت عن استخدامات اللغة العبرية على مناطق التَّماس والاحتكاك مع "المجتمع الإسرائيلي"، واحتلال الوعي من خلال فرض أنماط لغوية معينة تخدم تطبيع "إسرائيل". 

تتعرّض نصوص فلسطينية للاختزال والتفريغ من مضمونها

ولقد تراوح المؤتمر بين كلمات فيها مواضيع وأفكار، وأُخرى تطرّقت للدراسات الفلسطينية بشكلٍ عام. فالباحث المصري الكندي جوزيف فرج أشار إلى الكبت الذي يعانيه في الجامعات الأميركية حيثُ يُدرّس، فهناك يصعب الحديث عن الأدب الفلسطيني. وأمام هذه الصعاب والاستبعاد المتزايد لفلسطين وللأدب والثقافة من الفضاءات الأكاديمية الغربية رأى جوزيف أن مثل هذا المؤتمر هو خطوة على طريق استكمال دراسة هذا الأدب وتعميق فهمه.

من الصعب حقيقة اختزال جميع ما ذُكر في المؤتمر في مقالة كهذه، لكن تبقى التحية للقائمين على المؤتمر وللثراء الفكري الذي تزخر به مثل هذه اللقاءات، وما قد ينجم عنها من كتابات نقدية وتعاوُن بين باحثين وباحثات عندهم وعيٌ وشغف كبير تجاه الأدب الفلسطيني وقراءته كأدب فلسطيني وعربي من ناحية، وأدب عالمي وإنساني من ناحية أُخرى.
 

* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

المساهمون