أجنحة الشِّعر اللامرئية

09 مايو 2022
محمّد علي مفتي/ لبنان
+ الخط -

"بعيداً، بعيداً، ولسوفَ أطيرُ إليكِ أيّتها البلابل  
لستُ متكئاً على باخوس وحاشيته الماجنة  
بل على أجنحةِ الشِّعر التي لا تُرَى
حتى وإن كان العقلُ يَحَار ويؤخّرُ  
فأنا معكِ! والليلُ يسري بوداعةٍ،
والقمرُ الملكةُ يعتلي العرش مصادفةً 
محاطاً بالحشمِ من النجوم الساطعة
ولكن لا ضوء هنا، لا ضوء،
إلا ما تهبُّ به نسائمُ الجنةِ 
شاقّةً مسالكَ غضّة خضراء، ودروباً طمرها العشب".

■ ■ ■

تلكَ أبياتٌ من قصيدة جون كيتس، "العندليب"، وهي قصيدة تكادُ تكونُ موسيقى تتبخرُ من ماءٍ دافئٍ في نهارِ صيفٍ عليل. فكأنَّ الكلمات وجدت في خيالِ الشاعر الخصب تربتها المُثلى، فأزهرتْ ألقاً على أرضِ الشعر. أكتبُ هذه الكلمات لأشيرَ إلى ما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر حين أشارَ، في مقالة رائعة بعنوان "هولدرلين ولبُّ الشعر"، إلى أنَّ الشاعر هو صلة الوصل بين الشعر كهديّة وأُغنية، أي الكلام الروحي والوجداني الخالص، والناس، أولئكَ الذين يمشون في مناكبِ الأرضِ دونَ أن يشعروا أو يُعبّروا عمّا حولهم من حسٍّ دفين في المخلوقات والظواهر. 

يبدو هنا مدح الشعر من شخصٍ يَكتبه ويترجمه ضرباً من التحيّز الواضح، لكنّ الشعرَ طريق للالتصاق ومجاورة حميمة مع ما يدور من حولنا، ومعرفة نفس الإنسان، تلك التي وسمتها يوماً الشاعرة العراقية نازك الملائكة بأنها غامضة ومغطاةٌ بكثيرٍ من المناديل. 

والشاعر الذي يحملُ الهديّة التي يمورُ بها الصدر، وتتراءى في الخيال، هو الوسيط بين الطبيعة وعالم الغيب والبشر، أولئك الذين لا تقرّبهم من أنفسهم إلّا الأزمات. فمع الأزمات تقلقُ النفسُ، وتلجأُ لمحتوياتها النفسيّة الكامنة، لعلّها تتجاوز المِحَن. هنا؛ يكونُ الشعرُ نداءً خفيّاً لكينونةٍ متوتّرةٍ، تريدُ من الطبيعة التي تشمل البشر والحجر أن تسمعها وتشعرَ معها، وكذلك أنْ تريحها من عناءِ ما حلَّ بها، وممّا شَابَ النفس. هذا لا يعني ألّا يكونَ الشعرُ مودّةً للتعبير عن جمالٍ أو فكرة راودت الخيال بعيداً عن الألم، فهو في النهاية تَرِكة صدى على ما حلَّ بنفس الشاعر وراودَ الأعماقَ المرهفة، وهو بذلك خالد لا يموتُ، فلا الشعور ولا المِحن تختفي ما بقيت الحياة. 

الشعر أصدقُ ما في التاريخ من وثائق

محظوظون العرب والأمّم التي غمرها الشعر، محظوظون حقاً لأنَّ تاريخ هذه الأمم لم يكتب نثراً جافاً فقط، بل كُتِبَ شعوراً وحسّاً. ألا نشعرُ مع اِمرئ القيس، ونشاركه الوحشة والخوف، وهو يتلو علينا ما حلَّ به حين تركَ الديار وشعرَ بغربة النفس في رحلته، مستأنساً بالسماء التي تتوهجُ رعداً وبرقاً من غيومٍ ماطرة في نهاية معلقته الخالدة؟ ألا نرتحلُ شعوريّاً مع السيّاب، وهو يذكّرنا بالعراق الحزين ماضياً وحاضراً في قصيدته الشجيّة "أنشودة المطر". 

ومَن تركَ سجلّاً عاطفيّاً مدويّاً على مدى الدهر، وأقصدُ هنا ت. س. إليوت في قصيدة "الأرض الخراب"، حيث أشباح الحرب العالميّة الأولى تُلقي بظلالها على أوروبّا حتى بعد أن وضعت الحربُ أوزارها. لذا، فالشعر أصدقُ ما في التاريخ من وثائق، لأنّ به روحاً، وروحاً خاصة لا تموت. يبدو الشعرُ هنا "ما ينفعُ الناسُ" حين يمضي الوقتُ، ويزولُ الأثر من الماضي، وتبقى الأصداء، والأغنية الهدية المكتنزة في روحِ الشاعر ترافقنا في خيالنا ووجداننا، وتُذَكّرنا دائماً بالنفس البشرية، مستأنسةً بالشعر لعلّها تكشف عن نفسٍ غلّفتها الحُجُب.


* كاتب وأكاديمي فلسطيني مقيم في لندن

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون