أبو خليل القباني.. وضْعُ المسرحي الدمشقي في عصره

28 أكتوبر 2024
رجلٌ يقف في الفناء الداخلي لأحد المنازل الدمشقية، أواخر القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- أبو خليل القبّاني كان رائداً في المسرح السوري والعربي في القرن التاسع عشر، حيث جمع بين الإخراج، التمثيل، التلحين والغناء، وواجه تحديات الرقابة ليقدم نموذجاً متقدماً للمسرح العربي.
- نقل القبّاني خبراته المسرحية من دمشق إلى مصر، حيث أثرت عروضه في الإسكندرية والقاهرة على الأجواق المصرية، وقدم عناصر جديدة مثل رقصة السماح والدبكة، مما ساهم في ترسيخ تقاليد مسرحية جديدة.
- مشاركته في معرض شيكاغو 1893 أظهرت احترافية فريقه المسرحي، حيث لاقت عروضه استقبالاً حاراً من الصحافة الأميركية، مما يعكس نجاحاته وتحدياته في مسيرته الفنية.

ليس من المبالغة أن يُعتبر أبو خليل القبّاني رائداً للمسرح السوري في القرن التاسع عشر، ولا بدّ من إضافة: ليس في بلاد الشام وحدها، وإنما في عموم المشرق العربي، على الرغم ممّا أصاب حياته من اللغط، فقد كانت هناك ستّة تواريخ لميلاده، وتاريخان لوفاته، وخمسة تواريخ لبدايته المسرحية.

لم يكن القبّاني مخرجاً وممثّلاً فحسب، كان صاحب موشّحات، ومُلحّناً ومطرباً ذا صوت جميل. وإذا لم يكن معروفاً بما فيه الكفاية في بلده، فهذا عائد للتقصير في البحث عنه، وما أصاب نشاطه المسرحي أيضاً من التعتيم، بسبب ما ناله من رقابة ومنع، إضافة إلى ما واجهه من خصومات. كان المسرح باعتباره فضاء للمتعة والمعرفة السبب المباشر لشنّ الحملات ضدّه، وليس من مبرّر سوى ما أخذه على عاتقه من حرية في التعبير عن نوازع فنّية تبعث الروح في المجتمع، لم تخطئ هدفها في التنوير، ما جعل منه فعلاً واحداً من روّاد النهضة العربية.

ما أصابه في بداياته لن يقلّ عمّا سيصيبه من بعد في أيامنا. ففي ظلّ المناخ الذي ادّعى الثورة والاشتراكية والحرية والوحدة، سينحرف التعاطي معه، ويُستثمر بتجميده في قوالب أيديولوجية مغلقة، تُختزل جهوده وإنجازاته في مسألة صراعه مع القوى الرجعية المتخلّفة، لحساب القوى التقدّمية، في تجاهُل لقيمته التنويرية والإبداعية، وكان بإحداث صورة مقوننة له، إلى حدّ تجنيده داخل إطار التيار اليساري، قبل وجود اليسار نفسه.

حفّزت إقامته في مصر فِرقها المحلّية على تمثّل أسلوبه

جلاء هذه التصوّرات عنه، مع ما أصابه من حيف ومغالطات رافقت حياته، ولابست مسيرته، لا يمكن فهمها إلّا من بداية استهلال احترافه للعمل المسرحي في عام 1874، عندما باع جميع ممتلكاته، واستأجر قاعة في خان الجمرك، وحصل على ترخيص رسمي، لتكون مسرحاً مخصّصاً لعرض رواياته مقابل أجر مالي معلوم، وتفرّغ لها بشكل كامل، واستطاع أن يقدّم نموذجاً متقدّماً للمسرح، يختلف عن تلك الأنشطة التي سبقته أو عاصرته في دمشق وبيروت، كان أغلبها لا يستمرّ، وأقرب إلى الهواية منه إلى الاحتراف. 

ورغم الإقبال الشديد وبسببه، أثارت مسرحياته الكثير من الانتقادات الظالمة لشبهات أُلصقت بها، كانت بدواعي الحسد والغيرة، انقسم الدمشقيون حولها بين مؤيّد ومستنكر. وكان لإظهار الفئة المتنوّرة استمتاعها بمسرحياته عامل دفاع عنه، وتثمين لجهوده، وتقدير لهذا الفنّ الجميل، لكن كان لخصومه أكبر الأثر في رفع عريضة إلى الوالي، طالبت بإغلاق مسرحه وإيقاف نشاطاته، ما أدّى إلى ثورة الدمشقيّين استنكاراً لها. لكنّه سيضطر لئلّا يصطدم برجال السلطنة العثمانية إلى مغادرة دمشق إلى بيروت، ومنها إلى مصر، لتبدأ المرحلة المصرية من نشاطه العريض في المسرح، تخلّلتها رحلته الشهيرة إلى شيكاغو، ثمّ عودته إلى مصر، فالرجوع الأخير إلى دمشق.

أغلفة الكتب

تُعدّ المرحلة المصرية من أخطر المراحل التي مرّت بها تجاربه المسرحية، فقد قصد مصر محمَّلاً بخبراته المسرحية التي تراكمت في دمشق، واستهلّ العمل في الإسكندرية التي شهدت عروضه الأُولى، ثمّ في القاهرة، وبعض المدن الأُخرى، وكان في نجاح أعماله وكثرة الإقبال عليها، انعكاس وتأثير على الأجواق المصرية التي كانت تعاني من إقبال ضعيف للجمهور، ما حفّزها على الاقتداء بتوليفته الفنّية الاستعراضية التي لم تكن قائمة على التمثيل فقط، فقد حرص القبّاني على التنويع، وكان من عناصرها إدخال رقصة السماح والدبكة، وألعاب السيف والترس، وفقرة الغناء وما يُحدثه من تفاعل مع السمّيعة. فراقت للجمهور المصري، كما راقت من قبلُ للجمهور السوري، ما أدّى إلى احتدام المنافسة الفنّية بين جوق القبّاني والأجواق المصرية، انعكست على الأرض بشكل فعّال، أدّى إلى ترسيخ تقاليد جديدة في حركية الانتشار، كان من أبرزها التجول في المدن والأرياف، أكثر ما تجلّت في العروض بإدراج الفصل الضاحك، ووصلة الطرب بين الفصول، أو بعدها.

عموماً، لا يمكن في ذلك الوقت، الاطّلاع على المسرح المصري والسوري عن قرب، وجلاء تجاربهما وتدقيق تفاصيلهما، إلّا من خلال ما ساهم به رعيل من المسرحيّين، كان من أبرزهم القبّاني، مع عدم إغفال الكثير من المغامرين الأشدّاء من المسرحيّين المصريّين ذوي الباع المتميّز في العمل المسرحي. إنّ في شهادة مذكّرات الممثّل عمر وصفي المصري والممثّلة مريم سماط الشامية، ما يُحيلنا إلى عوالم المسرح التي خاضها أصحابها، والتي ساهمت في نشأة المسرح العربي وتطوّره الحثيث. 

أثبتت صحف أميركية مشاركته في معرض شيكاغو عام 1893

أمّا عن الحدث البارز المتعلّق بالمشاركة في معرض شيكاغو عام 1893، فقد كان لافتاً في الظهور المفاجئ لفريق القبّاني المسرحي الكبير في أميركا، وكان بمنتهى الاحترافية، بعدما سبقته سلسلة من التمارين في بيروت، جعلته مؤهّلاً للقيام ببرنامج استعراضي ضخم، وكانت تجربة جديدة تجانست مع تجارب القبّاني السابقة.

شكّلت مشاركته بفرقته تحت عنوان "مرسح العوائد الشرقية" في "المعرض العالمي الكولومبي" الكثير من الجدل والمماحكات في أوساط مؤرّخي الحركة الفنّية السورية طوال قرن من الزمان، حول ما إذا كانت قد حصلت أو لم تحصل.

وفي الحقيقة، لم يُؤخَذ بوصول أبي خليل القبّاني إلى نيويورك في السادس عشر من شهر نيسان/ إبريل عام 1893، على رأس فريق فنّي دمشقي بيروتي، بلغ عدد أعضائه أكثر من خمسين ممثّلاً وممثّلة، إلى جانب عازفين ومطربات وراقصين وراقصات، وهو ما أثبتته الوثائق الحيّة، والصور الفوتوغرافية، والمقالات التقريظية، ومنها التعريف اللافت في صحيفة "كوكب أميركا" من خلال ثلاثة أخبار، بأنّ القبّاني كان مدير الممثّلين. كذلك الكثير من الوثائق التي تُشير إلى تقديم الفرقة ثمانية عروض قصيرة لاقت استقبالاً حارّاً من الصحافة الأميركية. وكتبت حول ما مثّلته من "المشاهد والعوائد الشرقية في ضروبها المختلفة وأشكالها المتنوّعة"، كما كشفت عن الكثير من تفاصيل التكنيك المسرحي اللافت، لم يكن اختلاقاً، بل أشارت إليه مقالات نقدية مطوّلة.

هذه الحياة الحافلة الغنية بالنجاحات والإخفاقات ومشاق الترحال من بلد إلى بلد، والكثير من العناء في عالم المسرح ومشاكله التي لا تنتهي مع السلطات السياسية والاجتماعية والدينية، والجمهور المتنوّع المتقّلب الأذواق، ومتاعب التمثيل والممثّلين، والقصور المالي، تكشف عن حياة مسرحية مبهرة، حيوية ومدهشة.

أخيراً، ليس من التزيُّد القول إنّ الدليل إلى عالم مسرح القرن التاسع عشر يتمثّل في ثلاثة كتب: "وقائع مسرح أبي خليل القبّاني 1873 - 1883: حقائق ووثائق تُنشر للمرة الأُولى" و"من دمشق إلى شيكاغو: رحلة أبي الخليل القبّاني إلى أميركا 1893" و"سيرة الأجواق المسرحية العربية في القرن التاسع عشر: مذكّرات الممثلَين عمر وصفي ومريم سماط"؛ إنجاز متميّز في مضماره، وجهد توثيقي ممتاز، يستحقّ الإشادة بصاحبه الباحث والروائي تيسير خلف، في مقاربة موضوع كان في حكم المشكوك فيه؛ حيث نجح في توخّي وضع القبّاني في عصره الذي عاشه، لا استدراجه إلى عصرنا ورؤيته من خلاله.

كتعقيب وليس خاتمة، لو لم يُقيَّض للمسرح مثل هذا الجهد، لكان الباحثون الكسالى وما أكثرهم، ما زالوا حتى اليوم يتناقشون إن كان القبّاني قد قدّم عروضه المسرحية في شيكاغو أو لم يقدّمها، وفي ما إذا كان تقدّمياً أو رجعياً، يسارياً أو شيوعياً، قومجياً وربما إخوانجياً، لمجرّد أنّه مسلم أنشد التواشيح الدينية، ولا يُستبعد أن ينسبه مثقّفو الحداثة إلى الإرهاب المبكّر، إرضاءً لنظام عالمي يحيل الإسلام إلى الإرهاب.

أبو خليل القبّاني ليس أكثر من إنسان عشق الأدب، وكرّس حياته للفنّ، ودائماً إذا كان الفنّ حقيقياً، فهو تنوير، لا يُمكن للفنّ إلّا أن يضيء. الفنّ شعلة عابرة للزمن.  


* روائي من سورية

موقف
التحديثات الحية
المساهمون