آثار محمد الطاهر بن عاشور: موافقات منسيّة

21 اغسطس 2024
محمد الطاهر بن عاشور في عملٍ فنّي
+ الخط -
اظهر الملخص
- **مراحل حياة ابن عاشور وتأثيرها على فكره**: عاصر محمد الطاهر بن عاشور ثلاثة أطوار من الحكم في تونس وأنتج تفسير "التحرير والتنوير" وأكثر من ثلاثين كتاباً، محاولاً المواءمة بين قيم المعاصرة وجوهر الدين.

- **إسهاماته الفكرية ومحاولاته الإصلاحية**: ركز على إصلاح التعليم التونسي وقدم كتباً مثل "أصول النظام الاجتماعي" و"مقاصد الشريعة الإسلامية"، وأصدر فتاوى تعالج قضايا معاصرة.

- **تجاهل الدولة التونسية لأفكاره**: همشت الدولة التونسية أفكاره، لكن مؤلفاته انتشرت خارج تونس، مما يثير التساؤل حول إمكانية استنطاقها لحل القضايا المعاصرة.

عاصر المفكّر محمد الطاهر بن عاشور (1879 - 1973)، ثلاثة أطوار متباينة من الحُكم السياسي في تونس؛ فقد نشأ وشبّ تحت حكم البايات الحسينيّين الذين حكموها من 1705 حتى 1955، وكان جدّه لأمّه محمّد العزيز بوعتور أحد وزرائهم، ثم تطوّرت أفكاره طيلة الحقبة الاستعماريّة التي بسطت خلالها السلطات الفرنسيّة نفوذها العميق على الدولة والمجتمع. وعاش بعدها ما يناهز العقدَين تحت الحُكم الجمهوري بقيادة الحبيب بورقيبة الذي فرض نظاماً علمانياً، كانت أُولى قراراته، بعد الاستقلال، إغلاق "جامع الزيتونة" وتهميش الفكر الديني.

وتحت هذه الأشكال الثلاثة من الحُكم السياسي، أنتج ابن عاشور تفسيرَه الضخم "التحرير والتنوير"، ثمّ ما يزيد على ثلاثين كتاباً بعضُها لا يزال مخطوطاً. وقد صدر الجزء الأهمّ منها ضمن مجموعة شملت آثاره المتاحة باستثناء التفسير، وهي اثنان وعشرون كتاباً سبق أن طُبعت في حياته أو بعد وفاته، في إنجاز مشترك بين "دار ابن حزم" و"دار سحنون". وهو ما يُشرّع للتساؤل عن طبيعة العلاقات التي جمعت بينه وبين الدولة التونسية ومرجعياتها الثقافية.

في الطور الأوّل، اقتصر دور ابن عاشور على تشخيص مظاهر الخلل في الإيالة التونسيّة ولا سيما في مجال التعليم؛ فكانت باكورة أعماله، "أليس الصبح بقريب" (1907)، بدايةَ تفكير إصلاحي معمّق، مهَّد له بوصف نظام التدريس في "جامع الزيتونة" و"المعهد الصادقي"، وبذلك وضع اليد على مكامن الداء ودعا إلى الإصلاح من داخل منظومة الحُكم الحسَيني، إذ كان يتحرّك في نطاقه بوصفه مدرِّساً ومُفكّراً، ثمّ من خلال وظائفه الرسمية كمفتٍ وكشيخ إسلام. ومن البديهي أنْ رَفضت سلطات الاحتلال مشروعه فضيّقت على الزيتونة وخنقت بوادر الاحتجاج ولا سيما سنة 1910، إثر مظاهرات طلابيّة ضدّ الهيمنة الفرنسية.

محاولة جريئة للمواءمة بين قيم المُعاصَرة وجوهر الدين

وفي الثلاثينيات، كان كتاباه "أصول النظام الاجتماعي" و"مقاصد الشريعة الإسلامية" تفكيراً في روح الإسلام الأصيلة من أجل إحيائها حتى تُواجه الحداثةَ وتستوعبها عبر البرهنة على عدم التعارض بينها وبين المقاصد والأصول الإسلامية التي لا تُناقض الحرية والعدالة والمساواة وحتى النظام الجمهوري. فقد بيّن أنّ الإسلام يتضمّن روح تلك المبادئ لأنها كونية وفِطرية. وقد كان هذان الأثران بالذات محاولةً جريئة للمواءمة بين قيم المُعاصَرة وجوهر الدين بعد أن نقّاه من شوائب الخرافة واللا-عقلانية.

وقد خُصّصت الأعمال الأُخرى للحقول التاريخيّة والأدبيّة واللغويّة، مثل تحقيق ديوانَي بشّار بن برد والنابغة الذبياني، إلى جانب صياغة مناهج لتدريس الخطابة والبلاغة والنحو، كما ضمّت مجموع الفتاوى والأحكام التي أصدرها بوصفه مفتيَ البلاد، وهي إجابات عمّا طرأ على الحياة المُعاصرة من قضايا مستحدَثَة، أفتى فيها اعتماداً على المقاصد العليا للدين ومصالحه المُرسلة.

ولذلك، تأتي هذه المجموعة لتُذكّر بأصالة هذا الرجُل الذي خاض جلّ مجالات الفكر الإسلامي، تفسيراً وحديثاً، أدباً وتاريخاً، معتمداً نهج التحرير الذي يعني حلّ الإشكالات الظاهرة ونفي المفارقات التي تبدو لأوّل وهلة، ذلك أنّ النصوص الدينيّة قد تتضمّن بعض التناقضات بحُكم طبيعتها الشفوية الأصليّة، ومن ذلك أنّه خصّص كتاباً لشرح "موطّأ مالك" وآخر لشرح "صحيح البخاري"، ملتزماً فيهما بتوضيح ما ورد من إشكالات في الأحاديث النبويّة وبإشباع النظر في ما تركه الشرّاح القدامى من غموض أو اضطراب.

اعتمد نهج التحرير الذي يعني حلّ الإشكالات الظاهرة

ولعلّ هذا الطابع التقني الذي يتطلّب رصيداً معرفيّاً هائلاً هو ما جعل الساسة والقرّاء العاديين لا يُقبلون على أعماله، بحُكم أنّها موجّهة إلى النخبة: تجيب عن تساؤلاتهم وحيرتهم ولا تهمّ مشاغل الحياة اليومية بشكل مباشر.

وأمّا النظام البورقيبي فهمّش هذه الأعمال لأنّه رأى في علماء "الزيتونة" ومؤسّسة "مشيخة الإسلام" التي ترأسّها ابن عاشور امتداداً لحُكم البايات الذي ثار عليه واستمراراً للنهج التقليدي الذي لم يعُد قادراً، في رأيه، على بناء دولة حديثة. ويُشير بعض المؤرّخين، مثل هشام جعيّط، إلى عداوة تكاد تكون شخصيّة بينهم بحُكم أنّ بورقيبة قد ثار على نظام "البَلْدِيَّة"، وهي طبقة النبلاء الأرستقراطية بالعاصمة، ولذلك سجن بعض علماء الزيتونة مثل الشيخ محمد المختار بن محمود، في تصفية لرموز مرحلة البايات، سعياً إلى تجفيف منابع الفكر الديني.

مضت عقودٌ على التجربة البورقيبيّة وإرثه العلماني، وها هي مؤلّفات ابن عاشور تعود إلى الواجهة وتنتشر حتى خارج حدود تونس، بما بذلك في ماليزيا ومصر ودول الخليج التي لم يكُن جمهورُها يمثّل المتلقّي المباشر لأفكاره. فهل بيّن التاريخ صوابية آرائه التي عاد إليها المفكّرون الآن، ولا سيما نظرية مقاصد الشريعة بوصفها أحد المداخل الممكنة للمواءمة بين الحداثة ومقولات الإسلام ومسلكاً ذكيّاً لإعادة إحياء النص الديني من خلال روحه ومعانيه العميقة، لا من خلال أحكامه الحرفيّة وبعضها مقترن بسياقاتٍ ثقافية قَبَلية مثل قواعد الجنايات والعبوديّة والاقتصاد الريعي وغيرها؟

لذلك، فإنّ الرهان المعرفي الذي تتضمّنه هذه الآثار هو إمكانيّة استنطاقها فتوظيفها كمرجع أو كنسق متكامل يتضمّن أجوبةً محتملة عن القضايا التي تشغل الفكر العربي المعاصر، فابن عاشور مصلحٌ ديني عالج قضايا عصره بأدوات متينة أتاحت فهماً واسعاً لنُصوص الدين، وأظهرت معقوليّتها وإمكان مواءمتها لقيم الحداثة الكونية. إلّا أنّ ابن عاشور لم يُرِد، مثل غيره من الإصلاحين كمحمد عبده ورشيد رضا والعقاد، الانغماس في حُمّى السياسة، بل خاض غمار الفكر النظري وأجاب عن إشكالاته متسلّحاً بالمعرفة اللغويّة الدقيقة ليحلّ أكثر المعضلات دقّةً ويُمهّد بذلك لهذا الفكر أن يلج عالَم الحداثة من بابها الكبير.

لماذا لم تلتقط الدولة التونسية أفكار ابن عاشور ولم تعمل بها؟

والمأمول أن ينكبّ المختصّون في الشأن الإسلامي على البحث في الأجوبة التي صاغها الشيخ في هذه الآثار وفي الحلول التي اقترحها لتجاوُز العقبات العويصة التي تُواجه المسلمين اليوم، بعيداً عن التنظير المثالي وشذوذ الفتاوى. ولهُم أن يُحلّلوا ما في هذه المجموعة من آراء بوصفها علامةً فارقة في تاريخ العقل الإسلامي وتعبيراً من تعابيره في مواجهة الحداثة واستيعاب تناقضاتها. فهي محاولة جادّة في ربط المقاصد الدينيّة بقيم الحداثة، ضمن نطاق الجامعة الإسلاميّة التي تتألّف من دولة يحكمها القانون ولها سيادة، يكون الفرد - المواطن مركزها ومنتهاها. 

لكن يظل السؤال قائما: لماذا لم تلتقط السلطات التونسية على اختلاف مشاربها وأجهزتها هذه المواءمات التي برهن عليها الشيخ، ولم تعمل بها، وظلت تبحث تائهةً عن نماذج للنهوض في الشرق والغرب، أبان التاريخ المعاصر عن فشلها جميعا وعدم تناغمها مع الشخصيّة العميقة لتونس وللتونسيين. الأكيد أن قادة تونس لم يطلعوا على الفكر العاشوري ولم يدركوا مغازيه البعيدة وإلا لكانوا اتّخذوه مرجعيّة أساسية للدولة ومنبعا فكريا يغذي خطاباتهم ويقيمون على أساسه تحديث البلاد. 


* كاتب وأكاديمي تونسي مُقيم في باريس

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون