منذ سنواتٍ والكِتابة عن الثقافة السورية، وعن سورية بشكل عام، تُشبه وصفاً للمشهد نفسه. مشهدٌ يُبدي نفسه من زاوية مختلفة، تارةً، أو تحت أسماء وتسميّات مختلفة للأشياء نفسها، تارةً أُخرى. أمّا الجوُّ العام، فهو راكدٌ تقريباً. ليس فقط ضمن حدود البلد ــ الذي تتوالد داخلَه حدودٌ أخُرى تقسِّم مناطقه الخاضعة لسيطرات و"ثقافات" مختلفة ــ، بل حتّى عند السوريين الذين يُقيمون في منافيهم المختلفة، وإن كان هذا الرّكود، خارج سورية، أقلّ رسوخاً من ذلك الذي تعرفه مُدن ومحافظات البلد.
الفضل في هذا الفرق يعود، بلا شكّ، إلى الهامش الواسع نسبياً من الحرّية الذي يجده سوريّو الخارج مقارنةً بأبناء بلدهم الذين تُؤطِّر إمكانيّاتهم قبضةُ النظام الأمنية والعسكرية و"رؤيتُه" البعثية للثقافة. يعود الأمر أيضاً إلى وجود مؤسّسات وبِنىً تدعم مشاريعهم وتستقبلها، وخصوصاً في القسم الغربيّ من المعمورة، حيث رأينا، خلال العام المنقضي، صدور كُتبٍ بحثية وأدبيّة لسوريين لدى مؤسّسات ومعاهد ودور نشر فرنسية أو بريطانية أو ألمانية، كما شهدنا تنظيمَ معارض فنّية احتفت بها وسائل الإعلام الثقافية في هذه البلدان، وولادةَ مشاريع في المسرح، وكذلك محاولاتٍ جنينية في صناعة الكتاب أو في عرضه.
رغم ذلك، تبقى اشتغالات السوريّين الموزّعين في بلدان اللجوء فقيرةً على ضوء ما كان يمكن تقديمه ضمن المتاح من الحرّية والدعم (وهما مشروطان، في عديدٍ من الأحيان، بالتناسق مع الخطاب السياسي القائم في البلد المستضيف، هذا إن لم يكن بالإعلاء من قيَمه). هي اشتغالاتٌ مبعثرةٌ بالعموم، بعيدةٌ عن تشكيل مقولات جديدة، أو عن اقتراح خطابٍ يمكن النظر إليه بوصفه خطاباً ثقافياً سوريّاً جديداً. أي أنّ ما اعتدناه في السنوات الماضية تكرّر في 2021 أيضاً: الاجتماع السوريّ، في معناه السوسيو ـ ثقافي، ممزّق؛ والاشتغال الثقافي، بدوره، غير قادر على قلْب صفحةٍ وبدء أُخرى. بل الأسوأ أنّ "البعثية"، هذه التي ما تزال تُطبق على أنفاس ومخيّلات وممكنات السوريين المقيمين داخل البلد، تتمظهر أحياناً ــ تحت أشكالٍ من التفكير والإدارة والعمل الجماعي ــ لدى المهجّرين والمنفيين من المشتغلين في الثقافة، الذين يُفترض أنهم يُعارضون، في أغلبيّتهم العُظمى هذه العقلية والنظام الذي يُديمها.
لم يكن ينقص سورية الاصطدام بحائحة كورونا لتعرف الركود
بخلاف ما جرى مع أغلب بلدان المعمورة، لم يكن ينقص سورية الاصطدامُ بحائحة كورونا لتعرف الركود الثقافيّ الذي عرفته في العام الماضي. حالة التصحّر هذه تُسَجَّل منذ أعوام سبقت ظهور الفيروس، أي منذ توقّف المَدّ الثقافي الذي رافق السنوات الخمس الأولى من الثورة، والذي حمل معه محاولاتٍ وأفكاراً وأفلاماً ومسرحيّاتٍ ومعارضَ، قُدِّم أغلبُها خارج البلد. اليوم، لا شيء تقريباً يمكن تلمُّسه من كلّ هذا الحِراك، بل إنه يبدو أشبه بذكرى بعيدة. وحدها الفنون البصرية كالتجهيز والتشكيل، ربما، تُستثنى من هذا: تكاد تكون المجال الوحيد الذي جاء بقولٍ سوريٍّ جديد، والذي لم يتوقّف المشتغلون فيه عن المحاولة والاقتراح.
نُكثر هنا من استخدام مفردة "ركود" التي قد تبدو غامضةً من دون تثبيت مقصدِها. فلنعرّفها، في سياقنا هذا: غيابُ الحدث أو المنتَج الثقافي اللافت، الرّصين، الذي لا يولّد إعجاباً استثنائياً فحسب، بل يدفع أيضاً إلى التفكير انطلاقاً منه وبسببه؛ الذي يفتح آفاقاً ويبني، ربّما، لما قد يأتي.
تحدّثنا، حتى الآن، عن الثقافة السورية في معناها الإبداعي، الإنتاجيّ، وليس باعتبارها ظاهرةً اجتماعية. تحدّثنا عنها بالمفرد، وكأنّه أمرٌ بديهيّ أن تكون للسوريين ثقافةٌ واحدة اليوم. لكنّ ما خُشيَ في السنوات الماضية بات يتمظهر، يوماً بعد آخر، كواقعٍ يفرض نفسه. أي أنّنا بِتنا، ربّما، إزاء ثقافاتٍ، لا ثقافة واحدة. أو أنّنا في طور الذهاب نحو نتيجةٍ مؤسفةٍ كهذه. ذلك أن ما يعيشه السوريون الذي يخضعون لسُلطةٍ ما ــ سُلطة نظام الأسد، سلطة الإسلاميّين أو سلطة المليشيات الكردية ــ، وما يُقدَّم لهؤلاء من قيَم ودعاية ومنتج ثقافي، يختلف عمّا يعرفه الذين يعيشون تحت سُلطةٍ أُخرى. وما يُلقّن بالملعقة لأبناء هؤلاء يجهله أبناء أولئك، الذين يُلقَّنون قيَماً وتاريخاً قد يكون آخَر. ثمّة، بلا شكّ، سورياتٌ وسوريون واعون لعمل الماكينات الدعائية. لكنّ صوت الماكينة الدعائية يغطّي على أصواتهم، كما يصمّ آذانهم.
المدّ الثقافي في أولى سنوات الثورة يبدو اليوم كذكرى بعيدة
هكذا، يفتح نظام الأسد أبواب المناطق التي يسيطر عليها للروس بنُسختهم البوتينية (وأحياناً للإيرانيين بنُسختهم الخامنئية)، الذين يأتون ليكمّلوا، بدعايتهم، مقترحه الثقافي الهزيل. 2021 كان "حافِلاً" بعناصر "الرَّوْسنة"، "رَوْسنة" سورية، التي تبدو مشروعاً أكثر جِدّيةً ممّا اعتُقِدَ. فهي لا تتوقّف عند ضمّ موانئ ومناطق سورية، بل تسعى إلى خلق تحوير أو إعادة صياغة في المخيال والعقل ــ في المجتمع والثقافة. تفعل ذلك عبر عروضٍ أدائية ومسرحية وسينمائية، وعبر افتتاح أقسام لغةٍ في الجامعات، وإصدار كُتب ومعاجم توزّع مجّاناً أو بأسعار زهيدة، لنشْر صيغةٍ بوتينية من ثقافةٍ كنّا لنَسْعَد بمعرفة السوريين لها في شكلها الأوسع، اللابوتيني ــ أي باعتبارها ثقافةً لأمثال دوستوييفسكي وبولغاكوف وتاركوفسكي وباختين ــ، وفي سياقٍ آخر غير هذا السياق الذي المفروض بقوّة السّلاح.
وفي حين يعتقل الإسلاميون، في المناطق التي يسيطرون عليها، الثورةَ السورية وطموحاتها وتسمياتها، ويقدّمون إلى السوريين المقيمين تحت سُلطتهم إيديولوجيا مفارقة لما طمحوا إليه في يومٍ ما؛ فإنّ الماكينة الإعلامية التي تديرها الميليشيات الكردية، في مناطق سيطرتها، لا تتوانى، هي الأُخرى، عن "تثقيف" الناس بحسب رؤيتها إلى المنطقة والعالم، وبحسب المعجم الذي تريد تعميمه في "شمال وشرق سورية"، كما تُحبّ وسائل إعلامها أن تصف منطقة سيطرتها.