"نساء وفواكه وآراء": الوقوف على أطلال الكلية

20 سبتمبر 2020
حسن داوود (سيرج ليغتنبرغ)
+ الخط -

لم يحمل الفصل الأخير في رواية حسن داوود "نساء وفواكه وآراء" (2020) رقماً كبقية فصول الرواية. وحده حمل عنواناً، بل عنوانَين لافتَين "سطور أخيرة"، "زيارة لم تكن ضرورية"، كأنما لم تكن زيارة "نبيلة" الخائبة لكلية التربية، بعد أن أقلعت عن فكرة إقامة حفلة تذكارية لها، إلّا لتعيدنا إلى الرواية التي كانت حول كلية التربية في نصَّين، الأول الازدهار الذي كان، بحسب محمد صافي، أبرز أبطال الرواية، "الزمن الجميل"، ولا يحمل عنوان رواية حسن، "نساء وفواكه وآراء" سوى المعنى نفسه بلغة محمد صافي أو حسن داوود. 

لا يبدو الزمن جميلاً إلّا في مقابلته بالزمن الذي تلاه، والذي تفرَّق فيه خرّيجو كلية التربية، كلٌّ إلى حياته في ظل الحرب الأهلية التي كنّا، من قبل، قد لاحظنا إرهاصاتها الأولى في زمن الكلية: تظاهرات، ومحاولة قتل، ومجزرة في التظاهرة التي سبقت الحرب الأهلية ودخلت هكذا فيها "مجزرة 23 نيسان". كانت الحرب على الأبواب، لكنها لم تكن الحدث، فلسنا نجد ذكراً مباشراً لها إلّا في نهاية الرواية على لسان يوسف الذي دخل إليها من باب كلية التربية. كانت الحرب الأهلية تُطبق على النصف الثاني من زمن الرواية، لكن مصائر شخصياتها لا تصدُر مباشرةً عنها، هذه الشخصيات وإن كانت مجتمعة في الكلية، التي هي خلفية واقعية لها، إلّا أنها، وهي جميعها ذات واقع نافر وأكيد، لا تلبث أن تبتعد عن واقعها نفسه، لتكون لها في قرارتها، وفي حوافزها، وفي خواطرها المتفارقة، وفي ردودها وداخليتها ليكون لها دائماً طرافتها وبُعدها الخاص، الذي لم يفعل الزمن - وهو بطل الرواية الأساسي - إلّا تضليله وكسفه وتحويله أكثر فأكثر إلى واقع ثقيل، بل إلى واقع بحت.

إننا دائماً أمام الصعود والهبوط ذاتهما

لا يفعل الزمن بمحمد صافي النموذج الأصلي لكلية التربية، إلّا أصالة تميّزه عن الجميع، الذين يقلّون بدرجة أو أكثر عنها. لا يفعل الزمن بمحمد صافي شيئاً ليس فيه. إنه يمضي إلى المقلب الثاني بالشخصية المعدّة أساساً لهذا الانقلاب. طرافته المتمثّلة بجسارته ومفارقاته وسلطانه على المجموعة، هي التي، في وقت آخر، تتآكل وتنحدر وتتحوّل إلى قالب فارغ. لكن الرجل يبقى نفسه. كل ما في الأمر أن الزمن لم يعد له، وما كان امتيازاً في الأول يغدو في الثاني عبئاً، ويخسر في الواقع الجديد معناه، بل يتحوّل سُخفاً ولا معنى.

الأشخاص لا يتغيّرون، لكن الزمن هو الذي يتغيّر. إنهم يصبحون فيه عاديّين. من هنا نفهم أن الزمن الجميل انتهى، كما كان يقول محمد صافي، في ساعة معيّنة. لكن محمد صافي، وهو يقول ذلك، يقوله لطرافته ويقوله لما فيه من الغرابة، لا لأنه كان حقيقياً. رواية حسن داوود تتكئ على مرجع حقيقي، إنها تسعى لتقول فترة ما، ليست فقط كلية التربية، بل قد تكون لبنان قبل الحرب الأهلية، بل قد تكون ببساطة زمن الشباب. إنها تريد أن تقول فترة قائمة بذاتها، لكن الرواية ليست تاريخاً على الإطلاق. إنها، وهذا أسلوب حسن داوود، تلتقط أشخاصاً وأحداثاً ممتلئين بحضورهم لتبني على هذا الحضور المليء جواً من المفارقات وطرافة أصيلة، هكذا يغدو الأشخاص بهذا البعد عن وجودهم الأصلي. يكفي أن نجد محمد صافي يقول إنَّ نقطة الذروة في الزمن الجميل هي في الساعة العاشرة والنصف من صباح 11 شباط/ فبراير 1968، وإنّ الخط البياني بعد ذلك بدأ بالهبوط، لنفهم أن هذه الشخصية مبنية على غرابة أصيلة، تكاد في حجمها ونفورها تبدو واقعاً.

الصورة
نساء وفواكه

إذا تابعنا الرواية، فسنجد أن شيئاً كهذا يملأها، بل سنلاحظ أن الرواية تستنبش ما في السلوك وما في الخواطر وما في الملاحظات، من إضمار يبقى تحتها ومفارقة تكمن فيها. أشخاص حسن داوود هم هذه البوادر الضمنية والملاحظات المضمرة. إنهم بذات الوقت، في الداخل والخارج، ومن هذا الحضور المزدوج يبني حسن داوود في القسم الأول من روايته ما يبدو كادرات روائية، فنحن هنا، أمام شظايا روائية. محمد صافي نفسه يبدو لوحة شاهقة لكننا لا نملك الرواية عن محمد صافي سوى ما تتّضح به هذه الشخصية في عدد من الكادرات أو السيناريوهات. 

لا نجد في الرواية سوى صعود محمد صافي وهبوطه حتى موته. لا رواية ليوسف سوى هاتين اللحظتين. لسنا في مطرح آخر لدى الشخصيات الباقية. إننا دائماً أمام الصعود والهبوط ذاتهما حتى حين يكون الهبوط غير انحداري. وداد هي ذاتها التي قالت لا لحسان، تستمر في المقلب الثاني، وبوليت التي لم يتذكّرها في الكلية، هما رواية المقلب الثاني ما بعد الكلية. لا يحتاج محمد صافي إلّا إلى التجلّي والاحتفال والمرثية، مثله مثل كلية التربية. أمّا الرواية، فتأتي من سقط الكلية، من هوامشها، تأتي لتكون، كما يحدث في الفصل الأخير، مجرّد بكاء صامت على أطلال الكلية.


* شاعر وروائي من لبنان

موقف
التحديثات الحية
المساهمون