"منشورات مينوي" بيد "غاليمار": عقلية السوق إذ تشتري الاستقلالية

26 يوليو 2021
كتب من إصدار "منشورات مينوي" تعرضها مكتبة "لي ترافيرسيه" في باريس
+ الخط -

للوهلة الأولى، قد يبدو عالم النشر في فرنسا واحداً من آخر المجالات الثقافية التي ما تزال تُقاوم العقلية الرأسمالية التي تُحكِم سيطرتها، يوماً بعد آخر، على القطاع. تستند هذه الفكرة إلى كون دور النشر هي الحاضنة الأساسية للأعمال النقدية التي تستهدف هذه العقلية، وتُحاول تفكيكها في كتب تنتمي إلى فنّ المقالة أو إلى العلوم الإنسانية.

على أنّ الاطّلاع عن قرب على "الحديقة الخلفية" لكبريات دور النشر، وعلى كواليسها الاقتصادية، يكفي للوقوف على النقيض تماماً من هذا الاعتقاد، على الأقلّ في ما يخصّ دور النشر المعروفة. إذ كما هو الحال في مختلف القطاعات التجارية، ومنصّات الإنترنت، ووسائل الإعلام، يتجمّع عددٌ كبير من الدور المؤثّرة في المشهد النشري الفرنسي في عدد قليل من الأيادي.

حتى أيام قليلة ماضية، كانت "منشورات مينوي" الباريسية واحدةً من أبرز الدور الكُبرى التي تشكّل استثناءً في هذه القاعدة. فالدار التي جرى تأسيسها عام 1941 كانت (وما تزال حتى الآن) مُلكية عائلية، تقود زمامها اليوم إيرين لاندون، التي ورثتها عن والدها جيروم لاندون.

على أنه بدءاً من مطلع العام المقبل، 2022، ستنتقل مُلكية الدار إلى مجموعة "مادريغال"، وهو اسم الشركة القابضة التي أسّستها "منشورات غاليمار"، والتي تضمّ، إضافة إلى "غاليمار"، أكثر من عشرين دارَ نشرٍ وشركةً مرتبطة بالطباعة والنشر والتوزيع، من بينها أسماء معروفة ومؤثّرة في عالم النشر الفرنسي، مثل "منشورات فلاماريون" ومنشورات "P.O.L"، إضافة إلى دور عرفت بريقاً أكبر في الماضي ممّا هي عليه اليوم، مثل "منشورات دونويل" و"ميركور دو فرانس".

كانت من آخر دور النشر الكبيرة التي لم تبتلعها الشركات القابضة

وقد عزت مسؤولة الدار، إيرين لاندون، البالغة من العمر 72 عاماً، قرارها الموافقة على شراء "غاليمار" للدار التي تُديرها إلى رغبتها في "التأمين" على مستقبل العاملين في "مينوي"، حيث تخشى إغلاق الدار وفقدان الموظّفين لعملهم في حال رحيلها.

نزل خبر شراء "مادريغال"، أو بالأحرى "غاليمار"، "منشورات مينوي" كالصاعقة على عالم النشر الفرنسي، ولا سيّما ذلك القسم منه الذي ما يزال يُناضل ضدّ مركزة صناعة الكتب في أيدٍ قليلة. فمن بين الدور الكبيرة، التي تطبع كتباً لمفكّرين وكتّاب مؤثّرين، أو التي سبقت أن طبعت لأسماء مؤثّرة، لم يبقَ خارج عوالم الشركات القابضة إلّا "منشورات مينوي"، التي سبق لها أن عرّفت الجمهور الفرنسي إلى صامويل بيكيت، وساهمت بشكل كبير في تعريفه بأعمال جيل دولوز، وجورج باتاي، وجورج بلانشو، وبيير بورديو، وجاك ديريدا، وإرفينغ غوفمان، ومارغريت دوراس، وويليام فوكنر، وهربرت ماركوزه، من بين عشرات الأسماء الأُخرى.

كما يُحسب لـ"مينوي" أنها الدار التي "اكتشفت" موهبة روائيّي ما سيُعرف لاحقاً بـ"الرواية الجديدة"، حيث قامت الدار بإصدار أعمال لكلّ من ناتالي ساروت، وألان روب - غريّيه، وميشيل بوتور، وكلود سيمون، وروبر بانجيه، وجان ريكاردو، إلى جانب صامويل بيكيت. ومن الإصدارات البارزة التي ترتبط باسم "مينوي" مجلّتا "فلسفة" و"نقد"، اللتان ما تزالان، منذ تأسيسهما قبل عقود، محافظتين على مستواهما وعلى مكانتهما كاثنتين من أبرز الإصدارات الفكرية الدورية في فرنسا.

بخلاف الدور الكبيرة التي تعمل بعقلية تجارية، حيث تُصدر عشرات بل مئات الكتب التجارية وقليلاً من الكتب القيّمة، كانت "مينوي" (وما تزال حتى نهاية هذا العام، قبل أن تتغيّر إدارتها) تعمل بحسب الجودة، مكتفيةً بنشر عددٍ قليل نسبياً من الكتب كلّ عام، وراضيةً بقلّة الربح في سبيل تقديم كتّاب يحترمون ثقافة القرّاء وفهمهم وبحثهم عن العمق والتجديد والتحليل والفهم أو الإمتاع الأدبي الأصيل.

وعلى سبيل المقارنة فقط، فقد نشرت "مينوي" خلال آذار/ مارس الماضي (وهو الشهر الذي شهد صدور أكبر عدد من كتبها هذا العام) خمسة عناوين، هي ثلاثة كتب (اثنان في الأدب وكتاب في النقد الأدبي) ومجلّتان (عددٌ لكلّ من "فلسفة" و"نقد")، في حين قامت "غاليمار"، خلال الشهر نفسه، بإصدار ما يزيد عن الخمسين كتاباً (في الأدب الفرنسي، والأدب المترجم، والفلسفة، والعلوم الاجتماعية، والرحلات، والطبخ، والسياسة، والتاريخ وغيرها).

رغم هذا الخيار، لم تكن "منشورات مينوي" في لحظةٍ من تاريخها داراً مجهولةً أو تعمل في الظل، بل إنها الدار التي نال ثلاثة من كتّابها جوائز نوبل (صامويل بيكيت وكلود سيمون في الأدب، وإيلي فايسل في السلام)، إضافة إلى عدد كبير من الجوائز على مستوى فرنسا، ومن بينها جائزة فريدة من نوعها (هي جائزة "فيمينا" لعام 1944) لم تُقدَّم إلى كاتب قامت الدار بنشر عمل له، كما جرت العادة، بل إلى الدار نفسها، تقديراً لإسهامها في النهوض بالمشهد النشري الفرنسي في فترة الحرب العالمية الثانية.

مع هذا التاريخ الحافل الذي كتبته "منشورات مينوي" منذ تأسيسها، يُخشى أن يؤدّي استحواذ "مادريغال" عليها إلى انخفاض جدّيّتها وجودتها، وإلى وضع حدّ لمرحلةٍ كانت فيها الدار من المساهمين الأساسيين في إغناء عالم النشر الفرنسي، وبالتالي، إغناء القرّاء الفرنسيين وحتى غيرهم، حيث باتت أسماءٌ ساهمت في طبعها - مثل صامويل بيكيت وجاك ديريدا وجيل دولوز - أسماءً عالمية، إنسانية، وليست حِكراً على القارئ الفرنسي وحده. كلّ الأمل أن تكون هذه الخشية مُخطئةً، وألّا يُغيّر شراؤها شيئاً في خطّها التحريريّ ورؤيتها.

المساهمون