"معجم الدوحة" في 2021: على مشارف المحطّة الثالثة

01 يناير 2022
واجهة "معهد الدوحة" و"المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" (العربي الجديد)
+ الخط -

في هدوءٍ وثباتٍ، تستمرّ أعمال المَرحلة الثانية من صِناعة "معجم الدوحة التاريخيّ للغة العربيّة"، والتي تمتدّ من بداية القرن الثاني للهجرة حتّى نهاية القرن الخامس. ومثل سجّاد مُطرّز، يتواصل ظهور المفردات، الواحدَةَ تلو الأخرى وحِذوها، حاملةً معها شواهدَ موثوقة عن تواريخ ظهورها ودلالات تداولها في التراث العربيّ، العِلميّ منه والأدبيّ، شعرًا ونثرًا، ضمن مُدوّنة تجاوَزت مُكوّناتها المئةَ مليون كلمة، اقتُطفت ممّا يزيد عن 1700 مصدرًا أساسيًّا، لا تقتصر على نصوص الأدب، كما يتبادر إلى الذهن، بل تتعدّاه إلى التراث العِلميّ الذي لم يسبق أن أُدرِجت مُصطلحاتُه في المُعجم العربي من قبل، ولا عُدّت تصانيفُه، على نَفاسَتها، من مراجع اللغة ومتونها.

ويستعدّ "معجم الدوحة" www.dohadictionary.org، في الأشهر القليلة القادمة، للإعلان عن جملة نتائج المرحلة الثانية التي تعتبر من بين إحدى أهمّ المراحل تاريخيًّا ومعرفيًّا، حيث حَصل اتّساع لافتٌ في دلالات الكلمات، بفضل ما شهدته الثقافة العربيّة إبّانها من احتكاكٍ بسائر الحضارات، ولا سيّما عبر مسار ترجمة العلوم والمعارف التي شهدتها الخلافة العباسيّة في أروقة "بيت الحكمة"، وغيرها من مَعاقل المعرفة. وفيها خرجت معاني الألفاظ من الإحالة على مرجعيات مادّيّة مقترنة بالحياة البدويّة، إلى الإحالة على المفاهيم العقليّة والفلسفيّة، ممّا ضاعف درجة التجريد فيها وقطعها عن أصولها التأثيليّة الأولى.

كما تتّسم هذه الحِقبة بتفجّر منابع كلٍّ من العلوم النقليّة والعقليّة وتفرّع حقولها التي تشقّقت عن مئات من المُصطلحات الفنّية الخاصة بكل فرعٍ منها، يضاف إلى ذلك توسّع ألفاظ الحضارة المتعلّقة بمكوّنات المَعيش اليومي، كما يطلق عليها بيار بورديو، بعد امتزاج العرب مع غيرهم من الأجناس ضمن امتدادٍ إمبراطوريّ لا سابق له، أجاد المؤرّخ النمساوي غوستاف فون غرونيباوم (1909 - 1972) في وصفه، ضمن دراسته عن "هويّة الإسلام". ويمكن أنْ نحدَس أنّ نتائج هذه المرحلة الثانية ستتّسم بالتركيز على الانتقال من المعاني الأولى إلى دلالات الاصطلاح ومَفاتيحها، التي شاعت في العلوم والتي التقطها علماء كبار مثل عليّ الجرجاني (1339 - 1413) في "كتاب التعريفات"، والتهانوي (ت. 1745) في "اصطلاحات الفنون"، فضلاً عَن إشارات ابن النديم (ت. 1047) قَبلهما في "الفهرست".

صار ممكناً معرفة العمق التاريخي والدلالي لآلاف المفردات

إنجاز هذه المرحلة الثانية حدثٌ بأتمّ معنى الكلمة، لعلّه الأهمّ في السنة المعجميّة المنقضية؛ لأنه يتيح، للمرّة الأولى، للباحثين وغيرهم، الاطّلاع على عمقِ الكلمات التّاريخي الذي يُقدَّر بعشرة قرون كاملة، تعاقبت خلالها الدلالات والمعاني والتفّت في شكل تراكمي، قطائعيّ أو حلزونيّ، حول الجذر المُفتَرض. وهو ما يساعد في ترسيخ عِلْم دلالة تاريخيّ أكثر موضوعيّة وموثوقيّة. كما أنه يمدّ المستشيرين، فعلياً، بالمقابِلات الممكنة التي انحدَرت من اللغات السريانية والعبريّة، فضلاً عن سائر لهجاتِ الجزيرة العربيّة.

هذا ويستعدّ المعجم للبدء في المرحلة الثالثة، والتي تمتدّ من المائة الخامسة حتى يوم النّاس هذا، ولعلّها المرحلة الأعسر بسبب عدد المدوّنات في العصور المملوكيّة والعثمانيّة، والتي لم تدخل مفرداتُها إلى المعاجم العربية على الإطلاق، فضلاً عن صعوبة تَحقيب تاريخ ظهور المُفردات بشكل قاطعٍ طيَّ مواردها.

فلئن اهتمّت المعاجم العربية القديمة بالضاد في مراحلها الأولى، ولئن سجّل الفيروآبادي (1329 - 1414)، في "القاموس المحيط"، وتابَعه مرتضى الزبيدي (1732 - 1790) في "تاج العروس"، سائرَ ما طرأ عليها إبّان العصر الوسيط، وحيث تركّز عمل "معجم الدّوحة" على ترتيب المداخل من خلال المدونات، وهو مجهود جبّار، فإنّ هذه المرحلة الثالثة تتضمّن لغاتٍ وسجلّات لم تُدرج قطّ في المعاجم، حتّى المعاصرة، ومنها ألفاظ الحَضارة ولغة العهود والمواثيق والاتّفاقيات الدولية واللغة الكَنسيّة، وأساليب الصّحافة التي نضجت مع نشأة الطباعة بعد أن أحدثت طفرة كبرى في التوليد والإحالة، أي: في علاقة الضاد بالعالَم الذي تسارعت وتائر تحوّله.

على أنّ تجويد المَداخل، عبر المراحل الثلاث جيئةً وذهابًا، وتنقيح مضامينها، لا يُفرَغ منه حتّى يُعاد إليه، في عملٍ دؤوب لا يكاد ينتهي، بل إنّ تقسيمَه إلى مَحطّات مجرّد مَجازٍ إجرائيّ، الغرضُ منه التركيم والاستعادة والتنقّل بين الحقب. وتجرى، في ذات الآن، الاستعدادات حثيثةً لعَقد المؤتمر الدّولي الثالث، والذي سيتركّز على الأبعاد العلميّة والحضاريّة لـ"معجم الدّوحة التاريخي للّغة العربيّة"، من أجل استخلاص جملة الأبعاد التي يَشرحها هذا العمل ويوفّرها لمرتاديه.

تشمل المرحلة الثالثة كثيراً ممّا لم تضمّه معاجم العربية

هذا، والمأمول تنشيطُ مجال المقالات والأبحاث المعجميّة والاستفادة أكثر ممّا يُحَقّق في الحقول النظريّة الغربيّة، مثل كتابات جون - فرانسوا سابليريول، وباسكلين دوري، وجون بريفوست ــ من معاصرينا بفرنسا، حول التوليد والاستحداث والتقادم والهجران، وهي مفاهيم في صميم العمل التاريخي الذي يقوم به "معجم الدّوحة" ومن شأن استغلالها، على الوجه الأمثل، أن يُعين على تدقيق النظر في الأبحاث ومَدّها بأدوات إجرائيّة فعّالة لتقييم الظّواهر وربط بعضِها ببعض.

ومن جهة ثانية، نأمل الإكثار من الأبحاث المعمّقة حول التاريخ الدلالي لبَعض الكلمات ــ المفاتيح والأفكار- القُوى في اللغة العربيّة، والتي شكّلت منعطفات التاريخ السياسي، مثل المقال الذي خصّصه المفكّر العربي عزمي بشارة لمفردة "علمانية"، ومن شأن هذه الأبحاث المعمّقة، والتي كانت حكرًا على الغربيين، تَغذيةُ المعجم بجهازها النّظريّ، مثلما يرفدها المُعجم بما فيه من معلومات وتواريخ وَمحطّات. ونأمل أيضًا مراجعة كلّ التراث الاستشراقي الذي كان يحتكر العمل المعجمي صناعةً وتنظيرًا، طيلة القرنَيْن الماضيَيْن، وَالاستفادة ممّا كان فيه سليمًا واطّراح ما كان وَليد الإسقاط والمغالطة والتشويه.

إنجاز أولى المحطّات والإشراف على ثانيتها حدثٌ معرفيّ - ألسنيّ، لأنّه لم يظلّ في طور الشعارات والمشاريع والأماني، بل تجسّد بوابةً مفتوحة، مَيسورة الوصول من أيّة نقطةٍ في العالم مع بساطةٍ لافتة في الاستخدام، مقارنةً بما كان عليه الحال منذ سنتين، حيث كانت تعترض المستشير بعض العراقيل التِّقنية.

وسيُدشّن الانتهاءُ من مفردات المحطّة الثانية لعصرٍ جديد من البحث الدلائلي: يدرسُ فيه أبناء الضادّ لغتَهم بكلّ المنهجيات العلميّة المتاحة، دون عُقد نقصٍ ولا تقصير، وخصوصًا دون إقصاءٍ عنها بدعوى عدم تملّكهم إيّاها، إيذانًا بأنهم قادرون على استخلاص نتائج واعدة ومتينة، يُمكن لكافة اختصاصات العلوم الإنسانيّة أن تستفيد منها وأن تفهم على ضوئها العالم الرمزي الذي ما انفكّت الضاد تبنيه لساكنيها منذ قرونٍ.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون