تأسّست مدينة القيروان سنة 50 هجرية على يد عقبة بن نافع الفهري. ومنذ ذلك الحين، تبوّأت منزلة الصدارة في تاريخ الحضارة بالغرب الإسلامي واشتهرت مخطوطاتها: المصاحف وأمّهات الكتب، وغيرها من المخطوطات الطبّية، والفقهية القانونية من عقودٍ تُنظّم علاقات المجتمع. هذه المدينة، التي كانت العاصمة الأُولى في الغرب الإسلامي، ظلّت لقرون عدّة قبلةً لطالبي العلم، بما تنتجه من معرفة، ليس فقط في "أفريقيا"، وهي غالباً تعني تونس في حدودها السياسية الحالية، ولكن حتى المغرب الأقصى والأندلس وصقلية، وإلى حواضر القارة الأفريقية؛ وأشهرها تمبكتو في مالي حالياً.
ما وصل إلينا من هذا التراث كان بين أيدي سبعة من الأساتذة الجامعيين والباحثين التونسيّين عبر ندوة أقامتها على مدار يومين، الأسبوع الماضي، "مبادرةُ مخطوطات القرآن"، وهي مبادرة علمية بحثية مستقلّة انطلقت عام 2020 بهدف دراسة الوثائق القرآنية والإسلامية المبكرة، ويشرف عليها الباحث في المخطوطات القرآنية المبكرة أحمد شاكر.
قدّم المشاركون في الندوة، التي أُقيمت عبر تطبيق "زووم"، قراءاتٍ يمكن القول إنها مساهمة على طريق قلّ سالكوه، حيث المتوافر من مخطوطات القيروان يمثّل حصّة مقدّرة بين مثيلاتها في العواصم الإسلامية التاريخية، وتحتاج إلى شغل لحمايتها، وبالموازاة مع ذلك قراءة مسار هذه الحاضرة منذ السنوات الأُولى للهجرة.
فراغات
أمّا ما يسمّيه الباحثون البياضات والفراغات، فهي متوقّعة في عاصمةٍ، ومنطقة على العموم، كانت مجالاً للصراعات السياسية الدامية، حتى وقوع غزوة بني هلال منتصف القرن الخامس الهجري، بعد انقلاب على الفاطميّين والولاء مجدَّداً للعبّاسيّين في بغداد، وسيطرة المذهب المالكي على الشيعي.
ساهم زحف بني هلال في تشتيت قسم كبير من هذا الإرث الإنساني في القيروان، ومنه ما حالفه الحظ، وبقي حتى اليوم على شكل رقوق متفرّقة، أشهرها صفحات من "المصحف الأزرق"، درّة المخطوطات القرآنية، وهي مكتوبة بماء الذهب.
ويُعدّ هذا الرصيد القيرواني من أهمّ المجموعات القديمة للمصاحف القرآنية، لتكون شاهدة على القراءات التي عرفتها تلك الربوع وطرق رسمها وتنوّع خطوطها من خط الجزم أو كوفيّ المصاحف، والخط الكوفي، والمورق، والقيرواني، والتي نجدها في محامل أُخرى، وعلامات الفواصل والأعشار والأحزاب والمنمنمات ذات الزخارف النباتية أو الهندسية.
المكتبة العتيقة
قدّمت منال الرماح، وهي محافظ مستشار في "المعهد الوطني للتراث" بتونس، مداخلة بعنوان "المكتبة العتيقة بمقصورة الجامع الأعظم: دراسة تاريخية وكوديكولوجية"، قالت فيها إنّ تاريخ نشأة المكتبة غير محدَّد، لانعدام الوثائق والنصوص المبيّنة لذلك. ولا يمكن اعتماد وجود سَماع على أحد أسفارها من 231 هـ لضبط الأمور (السماع هو شهادة تدوّن في الكتاب تشير إلى شهادة السامعين وتثبّتهم من سند الكتاب). والجامع الأعظم الذي ذكرته، هو ذاته جامع عقبة بن نافع، ومقصورته استُعملت للكتب المحبّسة.
ومصطلح الحبس من الجذر الثلاثي "حبس"، ويعني وقف، وعليه تكون الأحباس هي الأوقاف. وتفيد صدق السلامي من "مركز الدراسات الإسلامية" في القيروان، بأنّ جذر "حبس" تواصل في الغرب الإسلامي على مرّ العهود، وأحياناً أُضيفت إليه "حبَس ووقَف وأبّد"، وفي مجال الكوديكولجيا فإنّ نصوص التحبيس تُعدّ من خوارج النصوص (وفي مجال علم النصوص عتبات النص التي لها دلالاتها ووظائفها)، منها المؤرَّخة ومنها من دون تاريخ، تقدّم معطيات متفاوتة عن المحبّسين ومرجع التحبيس وغاياته.
كانت هذه المكتبة - كما تواصل منال الرمّاح - تُعرف في السجلّات القديمة منذ سبعة قرون بـ"بيت الكتب" الذي بمقصورة الجامع، وقد دخل هذا البيت الرحّالة العبدري سنة 688 هـ، فذكرها بقوله "ودخلنا به (أي الجامع) بيت الكتب فأُخرجت لنا مصاحف كثيرة بخطّ مشرقي، ومنها ما كُتب كلّه بالذهب، ومنها كُتب محبّسة قديمة التاريخ".
يرجع أقدم مصحف في المكتبة إلى سنة 295 هـ/ 908 م، وهو المصحف المعروف بـ "مصحف فضل"، رغم أنّ العديد من الباحثين يرجّحون وجود مصاحف أخرى أقدم منه تعود إلى القرن الثاني الهجري مكتوبة بالخط الحجازي، وفق ما يورد كتاب "القيروان العتيقة وسبل صيانتها" لمراد الرمّاح).
وفي عهود متقلّبة بين الهدم والبناء وصلنا إلى جمع المخطوطات في القرن العشرين وضبطها وتسجيلها، وفي عام 1985 استُحدثت النواة الأولى لمخبر متطوّر للترميم والصيانة بالتعاون مع جامعة ألمانية. وفي عام 1995، صدر أمر رئاسي بإقامة "المخبر الوطني لصيانة وترميم المخطوطات"، والذي يتكوّن من أقسام: الرَّقمنة، والترميم والصيانة والتجليد، الفهرسة والنشر. ووفق ما أخبرَت الرمّاح، تتميز مكتبة القيروان العتيقة بأنّ الجزء الأوفر منها قد كُتب على الرَّق، وتُعتبر مجموعة الرقوق القيروانية أشهر وأكبر المجموعات المتبقّية في العالم الإسلامي وتشمل ثلاثة أقسام: قسم الكتب والأصول الفقهية، وقسم الوثائق والرسوم، وقسم المصاحف الباذخة.
حركة التحبيس
وبالعودة إلى نشاط حركة التحبيس، ستعرّفنا صدق السلامي إلى مجموعة من الأشخاص، وخصوصاً النساء، الذين حبّسوا المصاحف في أوقات الاستقرار السياسي، طلباً للمغفرة في الآخرة. أمّا أشهر نماذج التحبيس المعبّرة عن الصدام السياسي المذهبي، فكان على يد أبي بكر السوسي الذي اشترط على المعز بن باديس أن يكتب على مخطوطاته "حبّس على طلبة العلم" أو "حبّس على من يقول بقول مالك بن أنس وأصحابه".
بل أكثر من ذلك، فإنّ عهد ابن باديس الذي انتهت فيه الدولة الشيعية في أفريقيا، سيجد تعبيراً عنيفاً، ومنه ما تورده السلامي، ويقول بعد الشهادتين "وأنّ أفضل الناس بعد رسول الله أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم أجمعين. اللهم العن بني عبيد أعداءك وأعداء نبيّك، نفعنا الله ببغضهم أجمعين. حبّست هذا المصحف على جامع القيروان لوجه الله الكريم سبحانه".
مخطوطات آل الحارث
عفاف الحناشي من "دار الكتب" التونسية ذهبت إلى إرث عائلة قيروانية، فكانت مداخلتها بعنوان "مخطوطات آل الحارث بن مروان بالمكتبة العتيقة بالقيروان: دراسة كوديكولوجية". فالحارث وابنه مروان عملا على النسخ ما يزيد على أربعين عاماً.
واستشهدت المتحدّثة بـ"كتاب العمر" للعلّامة حسن حسني عبد الوهاب (1884 - 1968)؛ إذ قال: "وكان خطّهما بالقلم الكوفي في طوالع الكتب من أمتع الخطوط وأوضحها وأمتنها قاعدة، وكانا ينسخان الكتب للخزانة الأميرية، وآثارُ قلمها موجودة فيما بقي من الرقوق بمكتبة المسجد في القيروان".
وفي فنون النساخة، تطرّقت الباحثة إلى تحرّي الدقّة بعد السماع والنسخ، وصولاً إلى مرحلة المقابلة بهدف ضبط وتوثيق النصوص، وهو ما أبدع فيه الحارث وابنه، لافتةً إلى أنّ كتبهما متقشّفة المظهر، لكن في أغلبها ذات مسطرة منتظمة، وتعتمد على هجين من الكاغد (الورَق) والرَّق، وهي إشارة مادية لصناعة الكاغد، مثلما اشتهرت القيروان بدباغة الجلود الحيوانية التي تتّخذ منها الرقوق.
نقود أفريقية
ما دمنا في المخطوطات، فإنّ محمد الغضبان من "المعهد العالي للعلوم الإنسانية" في تونس، كان عليه توضيح سبب مشاركته، وهي بعنوان "الآيات والكلمات القرآنية المنقوشة على نقود أفريقية حتى نهاية العهد الزيري"، إذ سأل ما علاقة النقود بالمخطوطات؟ وأجاب بأنّ كلّ ما يُكتب ويُنقش يعتبر خطّة تستلزم التحقيق، وتساعد في كتابة التاريخ وفهمنا له.
ففي القرون الثلاثة الأولى ستمثّل النقود سجلّات متنوّعة من الاستعمالات القرآنية، تفيد بالتحوّل من التبعية التامّة لدى قرار الدولة الأموية في عهد عبد الملك بن مروان تعريب النقود والخروج من العملة البيزنطية المسيحية، فكان على الدينار الأموي آية التوحيد "قل هو الله أحد"، مع تاريخ السكّ ومكانه.
هذا صراع سياسي أبعد منه ديني، إلّا أن العملة الإسلامية، وقد استقرّت في ديار واسعة، تسمح لنا - كما يوضّح المتحدّث - بقراءة تحوُّلات السياسية الداخلية، وخصوصاً ذات الطابع المذهبي. فهو يرى أنّ النقود المضروبة بأفريقيا، باسمها أو باسم إحدى مدنها، هي مخطوطات لكتابات أو نقوش قرآنية وغير قرآنية يمكن دراستها بوصفها وثائق رسمية في النواحي الدينية والمذهبية والسياسية والعلامية.
ولنأخذ هذا النموذج، العملة التي سُكّت مع ثورة أبي يزيد صاحب الحمار على الفاطميّين في عاصمتهم المهدية، فقد كُتبت عليها عبارة "لا حكم إلّا لله"، وهي عبارة للخوارج، الفرقة المتطرّفة التي قاتلت الخليفة عليا بن أبي طالب.
الوثائق الشرعية
اطّلع الباحث معز دريدي من "المكتبة الوطنية القطرية" على مجموعة من الوثائق الشرعية المحفوظة بمكتبة القيروان العتيقة، وهو حقل آخر من المخطوطات، يخصّ تنظيم العلاقات القانونية بين الناس. وأقدم وثيقة تناولها عقدُ بيع قطعة أرض خراب تعود إلى 572 هـ، وكذلك وثائق شرعية وعقود زواج حتى عقد "إشهاد قبض أجرة سقاية وقبض ثمن علف حصان".
ولهذا النوع من المخطوطات سمة الإذعان لحركة البشر وانتقالهم من مكان إلى آخر. فرسالة من تاجر إلى تاجر ليس لها نصيب أن تكون وقفاً (حبساً) عامّاً لخدمة الآخرين في المساجد وبيوت العلم.
وفي خلاصته، فإنّ هذه الوثائق الشرعية تفيد في فهم تكوُّن المجتمع وكيفية تعاملاته، وتعيد الاهتمام بمن نسيتهم كتب التاريخ والحوليات، مثلما تعيد الاعتبار إلى المهمَّشين الذين ليس لهم حظوة لدى مؤرّخي البلاطات والطبقات.
رقادة
في مداخلتها "مخطوطات متحف الحضارة والفنون الإسلامية" برقادة القيروان: دراسة كوديكولوجية وأثرية"، قالت ملاك ضاوية من "كلية الآداب والعلوم الإنسانية" في القيروان إنّ مكتبة الجامع الأعظم حافلة بالمخطوطات المتنوّعة، وأهمّها المصاحف المكتوبة بين القرنين الثاني والسابع للهجرة، والتي عُرض جزء منها في "متحف الحضارة والفنون الإسلامية" في رقادة.
تأسّس المتحف سنة 1986، وتُعرَض فيه قطع أثرية ومخطوطات من مصاحف أوراق عُثر عليها بمكتبة الجامع الأعظم، إضافة إلى مجموعة من التسافير، مثلما يتضمّن نماذج من ورقات مصاحف عددها خمسون ورقة، تُظهر تطوُّر الخطّ من الحجازي إلى القيرواني. بعد العديد من النكبات التي عرفتها المكتبة، حُفظ جزء من مخطوطاتها في المكتبة التابعة لمخبر الترميم الرقوق والمخطوطات في رقادة، وهي تُقدَّر بحوالي خمسة آلاف مخطوط كما تفيد.
مشروع مخطوطات القيروان
ما زالت أسماء الهلالي، الأستاذة المشاركة في "جامعة ليل" الفرنسية، تُسهم في "مشروع مخطوطات القيروان"، الذي بدأ بمبادرة عام 2015، وفي 2018 تكوّنت مجموعة من الباحثين والأستاذة الجامعيّين والمحافظين على التراث للتعريف بهذه المخطوطات وتشجيع بحثها ودراستها.
وبيّنت المتحدّثة أنّ العمل بدأ بإشراف إداري ومالي جزئي من "جامعة هامبورغ" في ألمانيا، وتمثّلت الخطوات الأساسية في تقديم ملفّات للبحث عن إمكانات مالية تمكّن من إنجاز المشروع.
ووفقاً لها، فإنّ الخطوط الكبرى للمشروع هي المساهمة في الحفاظ على هذا الإرث، عبر توفير الإمكانات التقنية التي يحتاجها المخبر من آلات أدوات ومواد حماية، وتكوين إطارات تهتمّ بالمحافظة على المخطوطات، وتقديم محاضرات من مختصّين عالميّين في حماية المخطوطات من العوامل الطبيعية، كالرطوبة والحشرات.