يُلاحِظ من يتابع القضايا التركية عن قرب أنّ تغيير أتاتورك للحرف العربي في الأبجدية العثمانية واعتماد الحرف اللاتيني بدلاً منه عام 1928، والذي عُرف آنذاك بـ"الانقلاب اللغوي"، والذي جرى ضمن سلسلة من القرارات التي اتّخذها من أجل "تحديث المجتمع"، قد تسبّب في عدم قدرة الأجيال الجديدة في تركيا على قراءة تراثها، بالإضافة إلى عدم معرفة أصول كثير من الكلمات المستخدَمة الآن.
في هذا السياق، جاءت فكرة إنشاء "متحف الكلمة"، الذي افتُتِح رسمياً بالعاصمة التركية أنقرة، في الاحتفال بـ"يوم اللغة التركية" الماضي (26 أيلول/ سبتمبر)، وافتُتِح للزوار في بداية الأسبوع الجاري، بهدف تعريف الأجيال الجديدة بتاريخ الكلمات التركية، وعلاقاتها باللغتين العربية والفارسية.
يُعدّ هذا المتحف أوّلَ متحف للكلمة في تركيا، وقد أسّسته الكاتبة شيرمين يشار في مبنى قديم أمام "متحف حضارات الأناضول" الشهير في أنقرة، حيث قامت بترميم المبنى المكوَّن من أربعة طوابق، والذي كان في الماضي يُستخدم مخزناً للحبوب.
وذكرت يشار في التقديم الخاصّ بالمتحف أنّ فكرة إنشائه جاءت بسبب شغفها منذ الطفولة بالبحث عن أصل كلّ كلمة تركية جديدة كانت تتعلّمها، وأنّ هذا المتحف سيتيح للأجيال الجديدة فرصة التفكير في معاني الكلمات وجذورها، وإثارة الفضول حول الامتدادات التاريخية وراء الكلمات والتعابير التي نستخدمها كثيراً، لأنّ تعليم اللغة في المدارس بشكل تقليدي يجعل الأطفال يحفظون الكلمات دون استيعابها.
يُوفّر المتحف للزوّار فرصة التعرُّف على جذور المفردات التركية من خلال اللوحات والمنحوتات والتركيبات الفنّية التي تدور كلُّها حول الكلمة. ويستقبل المبنى زوّارَه بكلمة "مرحبا"، وعلى الدرج الداخلي تتدلَّى مع الثريا الزجاجية حروف نحاسية بالعربية والإيغورية والتركية القديمة والحديثة. وإلى جانب اللوحات الفنّية التي تتناول جذور الكلمات، هناك عمل فنّي تركيبي يثير الانتباه، للجهاز التنفّسي أثناء عمليتَي الشهيق والزفير، مع شرح لكلمة "teneffüs" "تَنَفُّس" التي تُستخدم في التركية بمعنى "استراحة"، وأنها مشتقّة من الجذر العربي "نَفَس".
تعليم اللغة التقليديُّ يجعل الأطفال يحفظون الكلمات دون استيعابها
وبالإضافة إلى قضية جذور الكلمات، يهتمّ المتحف أيضاً بموضوع الأمثال والتعبيرات الشعبية، فنجد مثلاً بجوار المنحوتة المخصَّصة لمعيار الوزن "okka" (أُقَّة) شرحاً لسبب استخدام الأتراك التعبير الشعبي القائل في ما معناه: "أريدُ قهوة بالأُقَّة"، بمعنى أريد قهوة ثقيلة. هناك أيضاً كلمات تُنطق بشكل خاطئ، وجرى تخصيص قسم لها في المتحف، مثل كلمة "شَاش" وينطقها الأتراك الآن "gazlı bez" لكنها في الأصل "Gazze bezi" أي شاش مدينة غزّة. كما يُعرض في المتحف أيضاً العديد من اللوحات والأعمال الفنّية التي تتناول أبجدية "جوك ترك" التي كان يستخدمها الأتراك في آسيا الوسطى قديماً.
وبالرغم من أنّ "الكلمة" ليس متحفاً تابعاً للدولة التركية، إلّا أن افتتاحه شهد حضور شخصيات سياسية بارزة، إلى جانب عدد من المثقّفين الأتراك، من بينهم المؤرّخ التركي البارز إلبر أورطايلي، الذي أشاد بأهمية المتحف، وذكر أنّه لا يقلّ أهمية عن "متحف حضارات الأناضول" الذي يعرض آثار العصر الحجري القديم والحديث والعصر الكالكوليتي والعصر البرونزي وحضارة الحيثيين، لأنه يتيح للأجيال الجديدة فرصة التعرّف على تاريخ مفردات اللغة التركية، وتاريخ أبجديتها أيضاً. كما أبدى أورطايلي اعتراضه على طريقة تعليم اللغة التركية في المدارس، واقترح أن يزور الأطفال "متحف الكلمة" أوّلاً ثمّ "متحف حضارات الأناضول".
جديرٌ بالذكر أنّ الكاتبة شيرمين يشار، مؤسِّسة المتحف، تُعرف بكتابة قصص الأطفال، إلى جانب أعمالها الروائية. وقد صدرت لها عدّة كتب قصصية، من بينها: "بقّالة الجد" (2016)، و"حكايات الطيور" (2018)، و"يا له من وطن رائع" (2020)، بالإضافة إلى العديد من الأعمال الروائية، أبرزها: "الممثّلة أمي" (2015)، و"مطعم الوداع التاريخي" (2017)، و"الحقل المجنون" (2020)، كما حصلت على "جائزة سعيد فائق للقصّة" عام 2021.