"متحف الأيقونات" في بيرات الألبانية: الوجه الأسمر للمسيح

11 أكتوبر 2022
بيرات "مدينة الألف نافذة ونافذة" (العربي الجديد)
+ الخط -

في جنوب ألبانيا تتميّز مدينة بيرات Berat بتراثها المتراكم الممتدّ على أكثر من ألفي سنة، الذي اختارته اليونسكو عام 2008 ليكون ضمن التراث الإنساني. وضمن هذا التراكم لدينا طبقات ومعالم إغريقية ورومانية وبيزنطية وبلغارية وعثمانية، سواء في القلعة المُشرِفة على المدينة أو في المدينة ذاتها، التي توسّعت وأخذت شكلها النهائي خلال الحكم العثماني الطويل (1450 - 1912). 

ومع انتشار النمط الشرقي لعمارة البيوت والجوامع والمدارس خلال الحكم العثماني، اشتهرت بيرات بلقب "مدينة الألف نافذة ونافذة"، حيث تتميّز إطلالة النوافذ المنسّقة باتجاه الشرق لتستقبل أشعة الشمس. وخلال الحكم العثماني أيضاً ازدهر الوجود المسيحي، سواء مع بناء المزيد من الكنائس أو مع تطوّر رسم الأيقونات، مع ظهور الرسّام أونوفري Onufri أو أونيفروس في القرن السادس عشر، الذي ترك بصمته في فنّ الأيقونات وأنشأ بذلك مدرسة استمرّت مع ابنه نيقولا وغيره من التلامذة.

ومع هذه الثروة من الأيقونات في الكنائس والأديرة في المدينة وجوارها، آلَ الحُكم في ألبانيا في نهاية 1944 إلى "الحزب الشيوعي" الذي سمح باستمرار الجوامع والكنائس التاريخية طالما كان ممثّلو الأديان خاضعين له. ولكن مع التقارُب مع الصين الماوية، بعد الخلاف الأيديولوجي مع الاتحاد السوفييتي عام 1960، وصلت "الثورة الثقافية" إلى ألبانيا بشكل أعنف لتُعْلَن ألبانيا، في 1967، "أوّل دولة إلحادية في التاريخ". وفي هذا السياق هُدِمت بعض الجوامع والكنائس القديمة وتحوّل بعضها الآخر إلى متاحف ومخازن.


متحف فريد للأيقونات

ضمن هذه الفوضى التي أحدثتها "الثورة الثقافية"، التي جرفت منشآت تاريخية ذات قيمة كبيرة، ركّزت "الدولة الإلحادية" على ما هو فنّي، بما في ذلك الفنّ الديني الذي يتمثّل في الأيقونات. ومع سيطرة "الدولة الإلحادية" على الجوامع والكنائس والمدارس، جمعت كلّ ما فيها من مخطوطات شرقية وأيقونات لتحوّلها إلى متخصّصين لفرزها حسب قيمتها الفنية. 

يعبّر الفم المزموم في الأيقونة من ملامح الزهد في الأكل

وفي هذا السياق تم اختيار 132 من أقدم وأجمل الأيقونات، من القرن 14 حتّى القرن 18، لتكون نواة "متحف أونوفري للأيقونات" الذي اتّخذ من كنيسة "نوم القدّيسة مريم" في القلعة التي تشرف على المدينة مقرّاً له عام 1986، والذي زرته لأوّل مرّة في أيار/ مايو 1988. ولكن بالمقارنة مع الزيارة الأولى التي كنتُ فيها وحيداً بمتابعة المُرافِق الرسمي، كانت الزيارة الجديدة في أيلول/ سبتمبر الماضي وسط فيض سيَّاح من مختلف دول العالم.

العذراء - القسم الثقافي
أيقونة "القديسة مريم" لرسّام مجهول من القرن 17 (العربي الجديد)

ومن الواضح من اسم المتحف أنّ التركيز يصبّ هنا على الرسّام والأُسقف أونوفري وما أحدثه من تطوّر أو مدرسة جديدة في رسم الأيقونات استمرّت من بعده مع ابنه نيقولا وتلامذته. ورغم قلّة المعلومات حول مكان ولادة أونوفري ووفاته، إلّا أنه وُلد وبرز وتُوفّي في القرن السادس عشر، وذهب إلى البندقية للدراسة، ثم ذاع اسمه فنّياً بعد عودته إلى بلاده عام 1547، وبرز في فنّ الأيقونات وفي الهرمية الكنسية وصولاً إلى تعيينه أُسقفاً لبيرات.

وعلى الرغم من أنّ فنّ الأيقونات عرف تطوّرات مختلفة بعد اعتراف الإمبراطور الروماني قسطنطين بحُرّية المسيحية وتحوّلها إلى دين رسمي للدولة، بما في ذلك "حرب الأيقونات" في القرنين الثامن والتاسع، إلّا أنّ الأيقونات عرفت تطوّراً كبيراً في الدولة البيزنطية اللّاحقة وفي الإمبراطوريّتين البلغارية والصربية اللتين شملتا ألبانيا الحالية قبيل الفتح العثماني. وفي هذا السياق استقرّت الأيقونات على قواعد محدّدة تُعطي الأولوية للبُعد الديني على البُعد الفنّي؛ لكونها تُعَلَّق في الكنائس وتخدم العقيدة المسيحية.

جدّد أونوفري باستخدامه اللون البنفسجي في صبغ الثياب

لكن مع ذهاب الشاب أونوفري إلى البندقية للدراسة هناك، حين كانت البندقية مركزاً للفنّ المبشّر بما هو جديد، نجد أنّ أيقوناته ــ بعد عودته إلى موطنه وصعوده في الهرمية الدينية ــ تعبّر عن لمسات جديدة أكثر واقعية وعن استخدامه للون جديد (ما بين الأحمر والبنفسجي) أصبح يختلط مع الخلفية الذهبية للأيقونية (التي كانت مقدّسة في الأيقونات) أو في ملابس المسيح، وهو ما استمرّ بعده مع تلامذته.


المسيح الأسمر

وهكذا، في لوحة المسيح، التي كانت موجودة في "كنيسة القدّيس يوحنا" في القلعة قبل أن تنقل إلى مقرّ المتحف، نجد أنّ وجهه بملامح جديدة تختلف عن صورته في أوروبا الغربية بوجه أبيض وعينين زرقاوين، إذ يبدو هنا بلون أسمر وشارب مائل وسحنة شرقية، بمسحة مغولية، مع الفم الصغير المزموم الذي كان يُعتبَر من ملامح الزهد في الأكل، بعد أن وصلت الغزوات المغولية إلى بلغاريا وصربيا في نهاية القرن الثالث عشر. واللافت في هذه الأيقونة هو التجديد الذي أدخله أونوفري مع استخدامه للّون البنفسجي الجديد في ملابس المسيح، سواء بخلطه مع الذهبي المقدّس، الذي كان يدلّ على قُدسية الشخصية الموجودة في الأيقونة، أو باستخدامه وحده كما يبدو في هذه الأيقونة. ومن ناحية أُخرى يبدو شَعر المسيح هنا متناسباً مع لونه ومجدولاً في الخلفية.

المسيح - القسم الثقافي
أيقونة المسيح لأونوفري من القرن 16 (العربي الجديد)

ولدينا في أيقونة القدّيسة مريم التي تعود إلى القرن السابع عشر، أي ما أصبح يُعرف بمدرسة أونوفري، اللّون الأسمر الواضح للمسيح مع شعره المجعّد في طفولته. وفيما يتعلّق بالألوان، نجد أنّ اللون البنفسجي الجديد أصبح طاغياً على ملابس مريم العذراء، بينما انحسر اللون الذهبي عن المسيح ليبرز أيضاً اللون السماوي ويضفي جمالية على الأيقونة.

وفيما يتعلّق باللون الأسمر للمسيح، تجدر الإشارة هنا إلى أنّ التراث الشعبي في البلقان غنيٌّ بالقصائد التاريخية والملحمية التي تُبرز شخصية "العربي الأسود"، حتى غدا سواد اللون مرادفاً للعرب، وهو ما نُشر حوله العديد من الدراسات. وتُجمع هذه الدراسات على أنّ التمدّد السلافي (البلغاري والصربي والكرواتي والبوسنوي) تزامن تقريباً مع وصول العرب إلى بحر إيجه لفتح القسطنطينية ثم سالونيك، واختراقهم أيضاً البحر الأدرياتيكي وحصار راغوصة/ دوبروفنيك. فمع هذا التمدّد العربي حول البلقان من الشرق إلى الغرب، تشكّلت في المخيّلة الأدبية الشعبية صورة "العربي الأسود"، التي انعكست لاحقاً في الفنّ والأدب.

كما أن في الوقت الذي كان فيه أونوفري يُبدع أعماله، كانت مدينة أولتشين المجاورة لألبانيا على ساحل الأدرياتيكي، تتحوّل إلى مركز للقرصنة أو "الجهاد البحري"، بعد أن تمركز فيها العبيد السود الذين جُلبوا من الجزائر وطرابلس الغرب وأصبحوا يُشتهَرون باسم "العرب"، الذين انتقل قسم منهم إلى داخل ألبانيا وبقوا يتميّزون بكنية "العربي" Arapi حتى اليوم.


* كاتب وأكاديمي كوسوفي سوري

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون