"تشاركَ الشبابُ نبضَ التجارب، كتبوا وقرأوا وأصغَوا، تنقّلوا ما بين درويش وغاليانو، كنفاني ومعلوف، وزارتهمُ الموسيقى عبر أشعار بيرم التونسي بصوت أم كلثوم، وطلال حيدر بصوت كاميليا جبران وغيرهم"... بهذه الكلمات قدّمت الفنّانة الفلسطينيّة أمل كعوش كُتيّب "لَفِيف"، الصّادر حديثاً عن "ملتقى الكتابة الإبداعيّة - لفيف". وقد اشترك في كتابته عشرة شباب وفتيات في عشرينيّات أعمارهم، من فلسطين ولبنان وسوريّة، جمعتهم كعوش في حديقة "نُحْيي الأرض" في مدينة صيدا، جنوب لبنان؛ وكأنّ تقاطعات اللّغة مع الزّراعة حكاية من حكايات الكتيّب المَخفيّة.
دعمت جهاتٌ مختلفة إنتاج هذا العمل من النّاحية التقنيّة، كونه نتيجة ورشة كتابة إبداعيّة عرّفت بنصوص ذات خامة تستحقّ أن ترى النور، في حين وضعتْ الفنّانة اللّبنانية لينا مرهج رسومات الكُتيّب (61 صفحة) وخطوطه البصرية، لتشكّلَ إضافة أساسيّة إلى المتن المكتوب، تصعب قراءتُه من دونها.
تولّت الفنّانة الفلسطينية أمل كعوش شؤون الورشة كافّة، من فكرتها الأولى حتى طباعتِها، وعن هذا تقول: "كان لي شرف مواكبة شباب 'لفيف' منذ اللّحظة الأولى حتى الختام الذي احتضنته الحديقة، لتشهدَ أوراق الخريف الأولى نصوصاً تناوَب الشباب على قراءتها وحياكتها نسيجاً متكاملاً".
أخذ سؤال المكان حيّزاً واسعاً من نصوص المشاركين
من أسرار هذا الكتيّب أنّ كُتّابه ليسوا محترفين، فمنهم مَن يخوض تجربة الكتابة لأوّل مرّة، ومنهم مَن لديه محاولات سابقة، لذا تفاوتَت جودة النصوص من شخص إلى آخر. لكنّها التقَت عند نقطة مهمّة، هي أنّ التعبير عن الحياة والتجارب الشخصيّة جاءَ حسّاساً وصادقاً. كما غلبَت الرؤيا التأمّلية والتّجريب على تلك النّصوص، ذلك لِما عند أصحابها من عفويّة تجعلهم لا يدركون أنّ ما يقدّمونه حالة تجريبية يمكنُها أن تتطوّر وتصل إلى مصافّ عالية، لأنّها من حيثُ المضمون تقدّم وصفاً لحظيّاً لما يشغل تفكير الشّباب.
حياة
كتب إبراهيم عبد الرّازق نصّاً قصيراً سمّاه "نور"، انطلق فيه من تجربته المِهنيّة مصوّراً. ويُلاحَظ في متن النّص، أنّ إبراهيم حاكى لغويّاً ألعاب الكاميرا لينقلَ إحساسَه الدّاخلي لا المشهد الخارجي فحسب، كتب: "إذا ما تأمّلنا هذه الدّنيا كاملةً، لا يمكننا سوى أن نرى أنّها تجمع، طوال الوقت، ما بين الظلّ والنور، وهنا خطرت لي فكرة: هل أنا الظلّ أم النور؟". يبدو الاقتباس، للوهلة الأولى، مطروقاً ومسموعاً ومُعادة كتابتُه، لكنّه في سياق النّص، يصبح جديداً، بل يتبدّى أنّه نتيجة فهْم لحقيقة أنّ من مهمّات الكتابة نقل الواقع، ولكنْ بإحساس وشفافيّة.
أمّا هبة ياسين، فتنتقل بمُتتبِّع النّص إلى دفتر مذكّراتها في عيد ميلادها الثّالث عشر. صحيحٌ أنها كانت صغيرة، بيد أنّ أول ما خطّت على دفترها كان: "حظّي تعيس"؛ هل تحسّن حظّها عند تلك الجملة؟ لا، فوالدَاها انفصلا. ورغم تعاسة هذا الحدث عليها، لم تتوقّفْ عن السّرد السّوداوي، منتقّلةً إلى شعور وواقع وحدث آخر هو الولادة، تكتب: "فنحن نولد أحياناً لحظة موت أحدهم. مات زواجهما وحييتُ أنا". توقّفتُ عند جملتها الأخيرة، والدّهشةُ التي تركتْها في صدري قد أعادتني فوراً إلى قوّة افتتاح ألبير كامو روايتَه "الغريب" بعبارة "اليوم ماتت أمّي". تلك الجمل، على قسوتها، تصمد في الذاكرة ولا ترحل بسهولة.
مكان
ميرا البعاصيري، وضعت عدّة عناوين في نصوصها، فبدت تعريفاتٍ بكلمات مثل "مرايا"، و"بيت"، و"لا شيء". لكنْ بعد قراءة النصوص، يتبين أنّها إجاباتٌ تُفصح عن معانٍ تكوّنت لديها بفعل المكان ربّما، تكتب: "كوخ صغير على غيمة ما أو على أرض بعيدة جداً، حيث البساتين كثيرة والضّحكات أكثر. هناك أريد أن أكون، في مكان ينتفي فيه القلق فلا يهرب أحد من مطر". ليست ميرا وحدها التي تأمّلت البيت وأخبرت عن حلمها بالمكان الذي تريده، إذ أيضاً استغرق محمد البدر بنصّ عنونَه "بيوت/ بيت"، واضعاً نفسه على قمّة يراقب منها المدينة، ويكثّف رحلتَه قائلاً: "تضيع الرحلة وأنت تتأمّل المدينة فتصبح في قمّة سعادتك؛ إنك تَرى ولا تُرى".
بدورها تسأل نور الصّفدي، في نصّها "مكاني"، عن "مكاننا"، وإنْ كان المكان هو البيت؟ وإذا كان البيت هو المكان، فهل أمّها هي البيت؟ تكتب: "هل الانتماء يجعل من المكان بيتاً؟". أسئلة نور ليست كثيرة، ولكنّها اختلفت عن زملائها في الكُتيّب، إذ لم تضع لأسئلتها إجابات، وتركتها مفتوحة للزمن.
إذن، يأخذ المكان، بوصفه سؤالاً، حيّزاً من نصوص الكُتّاب الشباب، كونه يشغل حياتهم، من ضمن أسئلة كثيرة يطرحونها على أنفسهم، ويبحثون عن إجابات لها. ها هي نشوى حمّاد تكتب عن حكايتها مع صيدا، وتجيب عن هيامها بالمدينة وروحها المتعلّقة بأزقّتها: "في تلك الأزقّة روحٌ قديمة لا تموت، تراها في الحجر القديم والآثار. هي روح بسيطة طبيعية غير متصنّعة، كطبيعة أهلها وكرمهم".
بقدونس
بعض المشاركين كتبوا عن تفاصيل يومية تُضحكنا كثيراً كلّما ذُكِرت، كحكاية معظمنا مع البقدونس وعدم مقدرتنا على تمييزه عن الكزبرة، إلّا أنّ تعبيرهم عن هذه الطُّرفة في بعض يومياتنا، ذهب إلى صياغة حكايات مختلفة. هذا ما فعلتْه مثلاً إسراء الهزّاع، التي أشارت إلى أنّها لم تميّز بين النبتتَيْن إلّا بعد أنْ تزوّجت: "حينها فهمت سرّ غضب أمّي".
ومثلها صابرين أبو العلا، التي كثّفت حكاية فدائيّ بُترت ساقه خلال الاجتياح الإسرائيلي للُبنان، ليتحوّل مع الزمن من مقاتلٍ إلى عامل على عربةِ خضار خشبيّة مهترئة "يستيقظ صباحاً ليملأها بأعشاب البقدونس ويبيعها بثمن بخس لا يساوي حاجات عائلته". كذلك استعان محمد الحاج بالبقدونس ليضيء فكرتَه عن الحياة: "متعرّجات الحياة بتفاصيلها تتباعد وتتقارب، وما أغربها حين تعود لتجتمع فجأة عند كلمة واحدة كالبقدونس".
في أيّ وقت
في "لفيف"، الكتاب صغير الحجم لكنِ الكبير في التأمّل والإبهار، هناك خيالاتٌ بدت في نصوص بعض الشباب، مثل "بحر" لعلي نجم، الذي لا يخلو من غرابة التّصوير، إذ يكتب: "لكنْ، ولدهشتي كنت أتنفّس تنفّساً تصاعديّاً من خلال الجرح في رأسي كدلفين! وما هي لحظات حتى اختلطت رائحة المِلح بالدّماء، وازدادت حدّة رائحة أعشاب البحر مع عطر الزّعفران". هذه الطريقة في التعبير تظهر في أكثر من موضع في الكُتيّب، فتدهش أحياناً وتثير التفكير في مرّات أخرى عن المقصد، لكنّها مع ذلك تدعو للفرح بمحاولات شباب قرّروا أن يكتبوا.
طبعت العفوية أغلب النصوص تجريبيةً كانت أو تأمّلية
تجربة "لفيف" ليست جديدة في لبنان، فهناك الكثير من ورش الكِتابة الإبداعيّة. ولكنْ عادة ما يتمّ التّغاضي عن تلك الإنتاجات التي يقدّمها الكُتّاب الجدد، ويطول الوقت بهم حتى يتمكّنوا من إثباتِ أنفسهم في الكتابة الأدبية. وحتى ذلك الحين، يُنسى غالباً أنّ الورش، والتّدريبات على الكتابة، تُساهم بشكلٍ جدّي في صقل قدرات بعض المُبدعين الذين لم يتعرّف عليهم القرّاء بعد.
يذكِّر "لفيف" بكُتب الجيب القديمة، فقطْعه الصغير جدّاً يسهّل حمله وقراءته في أيّ مكان، وكذلك نصوصه، قابلة للقراءة في أيّ وقت، وقابلة للحياة، فهي نصوص تأمّلية، فكّر فيها أكثرُنا، وأقلُّنا فكّر أن يكتبها، وأقلُّ مِن أقلِّنا كتبَها، وها هي الآن في "لفيف".
* كاتب فلسطيني مقيم في بيروت