كلّما تفاقمت أزمات الرأسمالية أو تضاعفت التباينات الاجتماعية والطبقية في بلدٍ ما، استُحضرت مقولات كارل ماركس، كما يحدث حين تُناقَش أزمة الغذاء في الهند، فتُستعاد تنظيراته حول الاستعمار البريطاني الذي لم يتمكّن إلّا من شيء وحيد هو إفساد الزراعة الهندية ونشر المجاعات، أو آراؤه المتأخّرة بعد تعلّمه اللغة الروسية حول عدم اعتقاده بأن الرأسمالية كانت مرحلة ضرورية لروسيا.
هل رأى الفيلسوف الألماني (1818 – 1883) ما لم يبصره الآخرون؟ تساؤل لا يبدو جديداً، حيث طُرح في زمنه، منذ أن تنبّأ باضطرابات اقتصادية واجتماعية وثقافية هائلة بسبب الثورة الصناعية، فشهد القرن التاسع أكبر ثورتين في تاريخ القارة الأوروبية.
"كارل ماركس والرأسمالية" عنوان المعرض الذي افتُتح في العاشر من شباط/ فبراير الماضي في "المتحف التاريخي الألماني" ببرلين، ويتواصل حتى الحادي والعشرين من آب/ أغسطس المقبل، ويتضمّن عودةً إلى استقبال نظرياته في القرنين العشرين والحادي والعشرين.
يضيء المعرض المسائل الأساسية التي ناقشها صاحب كتاب "بؤس الفلسفة"، متمثّلة بنقد الدين والمجتمع، وتحرّر اليهود عبر اندماجهم في المجتمعات الأوروبية، والثورة والعنف، والنضالات والحركات العمالية في العالم، والتقنيات الجديدة، والطبيعة وتدمير البيئة، وصولاً إلى أفكاره حول المادّية التاريخية.
يضمّ المعرض لوحات وصوراً لماركس ومخطوطاته وطبعات كتبه
تُعرض لوحات وصور فوتوغرافية وملصقات لماركس، ومنها بورتريه يعود إلى أيام دراسته في بون، رسمه هاينريش روسباخ في سنة 1835، وصورته الشهيرة في هانوفر عام 1867 التي التقطها فريدريش فوندر، كما يُعرض تمثال نصفي له صُنع سنة 1953 في رومانيا.
ويضمّ المعرض لوحة لزوجته جيني فون ويستفالين (1814 – 1881) تُنسب إلى الرسّام فيلهلم فون كوغلغن، حيث يشير المنظّمون إلى أنها أوّل قارئ ناقد لكتابات ماركس، وأنها تعاونت معه ومع رفيقه فريدريك إنغلز، وساعدت في صياغة "البيان الشيوعي"، حيث كتبت بخطّ يدها الأسطر الأولى منه، كما نشرت العديد من المقالات حول ثورة 1848، وكانت تُتقن لغات أوروبية أفضل من ماركس، الذي تعلّمها لاحقاً.
من بين الأعمال المعروضة مخطوطات مكتوبة بخطّ ماركس، كما استعانت قيّمة المعرض سابين كريتر بتسجيلات صوتية ورسوم متحرّكة في محاولة لشرح تفاصيل تتعلّق بأحداث عاشها صاحب "رأس المال"، وعُرضت أيضاً نماذج أصلية من المحرّك البخاري الذي كان يرمز للرأسمالية آنذاك، وساعة مقسّمة إلى ثماني ساعات، في إشارة إلى مقولة ماركس وإنغلز عام 1866 حول الحدّ الأعلى لدوام العمال يومياً، وهو ما أقرّته دول أوروبية بعد نحو نصف قرن تقريباً.
يلفت المعرض إلى حضور ماركس في الجدل السياسي في العديد من بلدان العالم حتى اليوم، حيث تمّت استعادة العديد من مقولاته بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، ورفعَ المتظاهرون في حركة "احتلّوا وول ستريت" سنة 2011 ملصقات عليها صورته مع شعار "أخبرتكم أنّني كنتُ على حقّ"، وفي غيرها من الاحتجاجات المتصاعدة في أوروبا خلال السنوات الأخيرة.
لا تغيب أيضاً طبعات كتبه التي لا تزال تلقى رواجاً حتى الآن، وإلى جوارها مؤلّفات أخرى لباحثين استندوا إلى أفكاره، ومنهم الاقتصادي الفرنسي توما بيكيتي في كتابه "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، الذي يفحص مقولات ماركس في عمله الشهير وراهنيّتها. ورغم ذلك كلّه، عاش ماركس في المنفى معظم أيام حياته ونُزعت عنه جنسيته الألمانية، فيما كان يدير شؤون حياته المادّية بفضل مساعدة إنغلز له...