"قصة حياة" إبراهيم المازني بعد ثمانين سنة

19 اغسطس 2021
صورة جوّية للقاهرة سنة 1948، عام رحيل المازني (Getty)
+ الخط -

رغم ظهوره في زمنٍ لمعت فيه ثلّة من كبار المُفكّرين، تمكّن إبراهيم عبد القادر المازني (1889 - 1949)، الذي تمرّ اليوم ذكرى ميلاده، من اجتراح مكانةٍ مرموقة بينهم، وهذا ما يقوله عنه النقّاد حين يستعيدون آثار مُعاصريه كعباس العقّاد وطه حسين. وهي مكانة استحقّها بما كان له من شَغف في الكتابة بحثًا عن أشكالٍ تعبيريّة جَديدة، نَهض لاستقصائها رفقة "جماعة الديوان"، من أجل تحديث طرق التعبير عن الفكر/ الوجدان حين يتشابكان مع عالَمٍ مضطرب، كلُّ ما فيه يتغيّر بسرعة البرق، بعد أن خَلخَلته حَربان عالميّتان وهزّه انهيار الخلافة العثمانيّة. وقد اختار المازني الكتابةَ، من ضمن مجالات عديدة، في مجال السيرة الذاتيّة، وهو جنس أدبيّ مستحدثٌ، في ذلك الوقت، أيْ: في ثلاثينات القرن الماضي، فقد أراد من خلال الخوض فيه أن يقطَع مع برود الخيال ولا سيما في صيغته الرومنسيّة والكلاسيكيّة المحافظة، التي تميّزت بالتكلُّف البارد.

ولذلك اجتهد في استعادة الحيويّة الواقعيّة لشرائح من المجتمع المصريّ، يَسبر أغوارها ويحلّل تجاربها عبر لُغةٍ عربية أخّاذة، تلتزم أسلوبَ السّخريّة ووضعَ اليد على المَلمَح الضّاحك المُضحك، مخالفًا ما سار عليه طه حسين في "الأيام" والعقاد في "سارّة".

وقد تجسّدت هذه الوسائل الأسلوبيّة بوضوحٍ في "قصّة حياة"، التي كتبها المازني وهو في أوّل عَقده الخامس، أيْ حواليْ سنة 1940، في غمرة حَرب عالميّة ضارية. فكانت مزجًا أجناسيًّا متناغمًا بين التراجيديّ والكوميديّ، بين المعاناة والمعابثة، يروي من خلالها وقائعَ مختارة من طفولته ومراهقته، مُدرِجًا طيَّها تَأمّلاتٍ في الحياة والموت، في الوجود والعَدم. ولكنَّ السؤال الذي يُطرح بقوة: هل كان المازني واعيًا بالقواعد الأجناسيّة التي تحكم فنّ السيرة الذاتيّة، ولا سيما في تلك العقود حيث لم تنضج معايير هذا الفنّ الأدبي ولا اتّضَحت قواعدُه، كما نعرفها اليوم في كتابات الباحث الفرنسي فيليب لوجين أو الفيلسوف بول ريكور؟

تضمّن تأمّلاته في الحياة والموت والوجود والعَدم

ولذلك جاءت "قصّة حياة"، التي قَسّمها إلى عشرين فصلًا متتابعة، غير جارية على نسقٍ واحدٍ واضحٍ، فتارةً يخضع السرد فيها إلى المنطق الزمني الخَطّيّ، حيث ابتدأ باستقصاء ذكريات الطفولة الثاوية في أعماق الذاكرة ذهابًا نحو فترة الشباب والاكتهال. وتارةً، يتبع مَنطقَ التداعي الحرّ للأفكار وما يَرِدُ على الذاكرة من خَواطرَ ورؤىً، فينتقل من صورة والده الصارم، إلى أحداث مَدرسته تلميذًا، فإلى تَجربته مُدَرّسًا وكاتبًا، ثم إلى وفاة زوجته على سرير المخاض، ثم يعود إلى غراميّات الطفولة البريئة وحبّه العارم لفتاة نَسي اسمها تمامًا! هكذا دون رابط منطقيّ سوى الرغبة في إكمال مَشهد أدبيّ أو تحليل تأملٍ فلسفيٍّ.

كما تضمّنت هذه "السيرة" مجموعةً من النوادر المضحكة والحكايات الطريفة التي امتاحها من واقعه الحقيقيّ، ولكنّها كانت مكتملةَ العناصر الروائيّة متوفّرةً على حبكة ناضجة وبِنية سرديّة تامّة الأركان. وقد يكون من المفيد لمُحرّري المناهج البيداغوجيّة اقتباس هذه النوادر لتدريس حِبكتها الأصيلة ولغتها الجَزلة، وستمثّل مواردَ تساعد في تنمية ملكات التحرير والبناء القصصيّ، مما يقرّب الشقّة بين نصوص الأدب ومستندات تدريس الضاد.

ولم يخرج أسلوب الكتابة، في هذا النصّ، عمّا اختطته "مدرسة الدّيوان"، والتي كان من بين مُؤسّسيها مع صديقه العقّاد وعبد الرحمن شكري، إذ ركّز على الذاتيّة مقابلَ الكليشيهات الشكليّة، مع جزالة العبارة ووضوحها وبُعدها عن التكلّف الذي طالما وَصَم كتابات عصر النهضة وما قبلها. ومع ذلكَ، لم يخلُ نصّه من بقايا أسلوبيّة لتلك الحقبة الأدبيّة ومن هيمنة بعض التراكيب والعبارات الكلاسيكيّة، وحتى من البحث عن المُحسِّنات البديعيّة، علاوة على حُضورٍ مُقنّعٍ للهاجس الأخلاقيّ. ولكن، تَبقى هذه الأعراض خفيفةً، لا تمسّ رغبة الكاتب في التحرر من القيود الشكليّة الجامدة التي طالما حاربَها في مَعاركه الفكريّة ونقده اللاذع لمُصطفى الرافعيّ وأحمد شوقي.

قصة حياة - القسم الثقافي

ورغم أنّ جنس السيرة الذاتيّة لا يوائم منهج السخريّة، فقد اعتمده المازني أثناء استرجاع ذكرياته وتصويرها، فقد كان ينقل الأحداثَ البعيدة، وبَعضها شديد الإيلام مثل احتراق جليلة، الفتاة الصغيرة ابنَة خادم الأسرة، أمامه عَينَيه، أو وفاة ابنه وزوجته بسبب سُكْر الطبيب الذي باشر إيلادَها، ولكنه كان يضفي على هذه المشاهد الدرامية نبرَةً ساخرة، فتغدو مُضحكةً مُسلّيّةً، ولكنّه ضَحكٌ مَرير، يُواجه "المأساة" في بُعدها الوجوديّ، كما كان يعرّفها الأديب التونسي محمود المسعديّ ومن قبله الكاتب الفرنسي ألبير كامو، بضربٍ من التعابث والاجتراء، فيه الكثير من الصّراحة التي قد تَصدم قارئَ اليوم مع أنها كانت في تلك الأيّام سائغةً.

ولهذه الأسباب جميعِها، لا يُمكن إدراج هذا السّرد ضمن السيرة الذاتيّة بما هي استرجاع واعٍ لأحداث الذات، تُسرَد على لسان ضمير المُتكلّم وتخضع لقواعد صارمة، بل هي أمشاجٌ من ذكريات فرديّة، حيكت من أجل التأمّل في حتميّة الموت وزَيف الحياة، زَيفٍ قاومَه المازنيّ برشاقة العبارة ومتانتها، وليس كالكتابة وسيلةً لمقارعة الفناء ومُنازلة الأقدار.

اعتمد السخرية أثناء استرجاع ذكرياته وتصويرها

ولا يزال نصّ "قصّة حياة"، بعد نيفٍ وثمانين عامًا، حيًّا طريًّا، يروي سيرةً ذاتيّة نكاد نرى كلّ جزئيّاتها حين ترسُم أمامَنا بهاءَ العاصمة المصريّة وبساطَةَ أريافها في النصف الأول من القرن الماضي، وقد اختلطت اللكنة التركيّة بالعربية لدى شخوصها، وسادت مظاهر ثورة عند شبابها، واستُرجِعت تفاصيل مُمتعة عن النسيج اليومي فَنوشِك أن نُحسّها بفضل ريشة المازني وسرديّته الحيّة.

وهكذا، يَستقيم إدراج كتاب المازني ضمن جنس السيرة الذاتيّة إذا اعتمدنا تعريفها التقنيّ الذي يراعي تطابق اسم المؤلف في الغلاف مع الرّاوي والكاتب، مع أننا لا نجد، في "قصّة حياة" بناءً لما يُسمّيه بول ريكور: "الهويّة السرديّة"، أيْ تشييد الشخصيّة الذاتيّة داخل النصّ حسب قواعد بناء الشخصيات الأدبيّة، فتغدو السيرة الذاتية بذلك تأملاً عميقًا في الذات، وليس مجرّد استرجاع لمحطّات من ماضيها. ولا ينطبق هذا المعنى الدقيق على عَمل المازني، إذ لا تبدو غايته تأمليّةً محضةً، بل هي أقرب إلى خطاب اجتماعيّ- نقديّ. وهذا هو المعنى الذي أضفاه على جنس السيرة الذاتية، بما هي نَقلٌ أدبيّ للتجارب التي حَكمت وجود ذاتٍ من الذوات، وتصوير ما خالَجها وهي تعاين قَدَرَها يومًا فَيَومًا، تتعقّبه وترصد آثاره.

وهذا هو ما اجتهد عبد القادر المازنيّ في صياغته، حيث نقرأ اليَوم قصّة هذه الحياة فنكاد نرى "عم محمد" الخادم يصيح وسط فناء الدار وقد التهمت النيران الجسد الفتيّ لابنته الوحيدة، جليلة، وهي تستغيث... وكلّنا أجسادٌ تلتهمها نيران الحياة، والأدب مَن يُراقب أعمدَتها وهي ترتفع في السماء بحثًا عن الخلود، وقد تُطفئها سحابةٌ عابرة.


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون