"قصة الضمير المصري": عند إشارات صلاح عبد الصبور

14 اغسطس 2021
صلاح عبد الصبور في بورتريه لـ أنس عوض (العربي الجديد)
+ الخط -

تختص هذه الزاوية بتقديم قراءات في كتب عربية مرّت عقود على إصدارها وما زالت تنبض براهنية تستدعي قراءتها واستعادة أصحابها. هنا عودة إلى كتاب تاريخي وفكريّ وضعه الشاعر المصري صلاح عبد الصبور الذي تحلّ اليوم ذكرى رحيله الأربعين.


ما الذي يدعو شاعراً إلى أن يكتب ما يُمكن أن نُسمّيه، بنوع من التجاوز، وبعبارات اليوم، "تاريخَ أفكار"؟ في 1972، نشر الشاعر المصري صلاح عبد الصبور (1931 - 1981) كتاب "قصة الضمير المصري الحديث" (صدر ضمن سلسلة "كتاب الإذاعة والتلفزيون")، وهو عمل يبدو ناتئاً عن بقيّة مدوّنته؛ الشعرية أساساً، بما في ذلك المسرحية منها، وحتى النثرية وكانت هي الأخرى في تماس مع الشعر.

ما هو هذا الضمير المصري الذي يتصدّى عبد الصبور لكتابة قصّته؟ نقرأ في التقديم الذي ظهر في الغلاف الخلفي للكتاب: "قصة الضمير المصري هي قصّة الوعي الوطني والإدراك لحركة التاريخ (...) وهي أيضاً قصة الرجال الأذكياء الذين ساهموا في صناعة العقل المصري الحديث أمثال رفاعة الطهطاوي وجمال الأفغاني وعبد الله النديم ومحمد عبده ولطفي السيد وطه حسين وغيرهم".

هؤلاء يسمّيهم الشاعر المصري "الأبطال"، ويعقّب بأنه إذا تحرّينا الدقة فمن الأجدر القول بأنهم "أبطال تراجيديون" حيث وُلدوا في بيئة مُعرقلة وتقدّموا نحو أهداف ظلّ يُنكرها معاصروهم لكنهم ظلوا يثابرون من أجل إضاءة الطرقات المظلمة التي يسلكونها، وكان زادهم في ذلك المعرفةُ وإعمال العقل وتأمّل الحياة بدل الركون إلى انتظار الموت. 

لم تتبع العمل محاولات جدية لكتابة تاريخ الفكر العربي

ما يؤرّخ له صلاح عبر الصبور، هو ذلك "النور الفكري" الذي جعل من هؤلاء أبطالاً. ولكن يبدو أنه تحاشى في العنوان ذكر كلمة الفكر فاختار مفردة الضمير التي تبدو هي الأخرى موفّقة بما تخلقه من ظلال ملوّنة للعمل. كما اعتمد صاحب "أحلام الفارس القديم" مفردة القصة متحاشياً استعمال مصطلح التاريخ. لكن متى كان الشاعر غريباً عن كتابة التاريخ؟
لا ندري إن كان صلاح عبد الصبور قد اطلع أم لا على أحد تقاليد الفكر الألماني، من القرن الثامن عشر إلى بدايات القرن العشرين. تقليد كان فيه الفلاسفة يتأمّلون العلاقة المعقّدة بين التاريخ والشعر. تبلور ذلك في منجز المفكّر أوسفالد شبينغلر (1880 - 1936) الذي وصل إلى العربية باكراً حين خصّص له عبد الرحمن بدوي كتاباً يلخّص فكره في 1941 ثم صدرت في 1964 ترجمة أحمد الشيباني لكتابه المرجعي "تدهور الحضارة الغربية".

كان شبينغلر يؤكّد أن فهم التاريخ مهمة موكولة للشاعر قبل المؤرّخ، فالثاني منتبه إلى الوقائع التي يعتبرها المادة الحصرية لكتابة التاريخ، في حين أن التاريخ ليس سوى صورة من الحياة في تشعّبها، والشاعر هو من يملك دربة الإمساك بالمعنى ضمن هذا التشعّب. وقد وجد شبينغلر في مدوّنة الشاعر غوته من تأويلات في التاريخ الألماني والبشري ما لم يجده في كتب المؤرخين.

دون أن يسمّي ذلك تاريخاً، قام عبد الصبور بإعادة تركيب صيرورة الوعي المصري بالعالم، وقد ذهب رأساً إلى الحياة، في صيغة الجمع، حين اعتمد تركيباً مبسّطاً لكتابه فساير التاريخ المصري المعاصر من أوائل القرن التاسع عشر حين "استيقظت أمة نائمة على هدير المدافع"، من خلال استدعاء "حيوات" شخصيات كان لحضورها في العالم ظلٌّ فكريّ.

يعتبر أن النزاهة الفكرية هي شرط الانتماء إلى النخبة

سنجد طيّ الكتاب لمحات تأملية من الشاعر في الفكر، في أسرار اتقاده أو شروط تدفّقه أو انكفائه، فيذكر في سياق حديثه عن رفاعة رفعت الطهطاوي أن "الدهشة هي ينبوع كل فكر عميق لأنها تقلق النفس الساكنة الفاترة وتبعث فيها دوامة السؤال، وإذا بدأ الإنسان بالسؤال قاده السؤال إلى المعرفة". 

أو يقدّم لنا عبد الصبور رأيه في ما يعتبره شرط فاعلية المثقف وهو "النزاهة الفكرية"، ويعرّفها بـ"المقدرة على تخليص النفس من تحيّزاتها وأهوائها ومحاولة النظر إلى الحقيقة في قلبها وصميمها"، ويبيّن أن هذا الشرط قاسم مشترك لـ"الأبطال" الذين اختارهم ليؤثّث بهم "قصة الضمير المصري". ولعلّنا من خلال هذا الشرط نلمح رابطاً بين مفردة الضمير في العنوان والهدف الذي يطمح إليه الكتاب في مجمله.

ومن خلال قيمة "النزاهة الفكرية"، تصدّى عبد الصبور إلى قضية لعلّها اليوم أكثر إلحاحاً مما كانت عليه في زمنه، حيث يذكر أن هذه النزاهة هي التي تجعل من وجود نخبة ضمن المجتمع أمراً شرعياً، وتبرّر قيادتها وتوجيهها لسائر القطاعات. لكنه لا يَغفل عن وجود "تهوين من دور النخبة" في الواقع، ويفسّر ذلك بسقوط شرط النزاهة الفكرية عن فئة من المثقفين، كما يذكر إلحاق "أهل الثراء وأهل السلطة" ظلماً بالنخبة التي هي بحسبه "نخبة الفكر" تحديداً.

تأتي هذه التأمّلات الفكرية، على أصالتها، مثل نتف موزّعة بلا ترتيب ضمن السياقات المتنوّعة التي تعبر الكتاب. أحياناً، نشعر مع عبد الصبور بتهيّب من الذهاب إلى أعمق ما في الأفكار. لعلّه يكتفي بدور الشاعر في إلقاء الومضة دون التوغّل إلى أقصى ممكنات الفكرة، ولكن هذا الإحجام - إضافة إلى عدم التخلّص من النبرة العاطفية في تناول الشخصيات - هو ما يمنع الكتاب من الانتماء إلى أفق يشير إليه، وهو كتابة "تاريخ أفكار". لم يخطُ عبد الصبور خطوة لإنجاز ذلك، لقد اكتفى بالإشارة إلى وجود ضرورة لفعل ذلك. 

قصة الضمير المصري

لا ينبغي لنا أن نقسو على صاحب "مأساة الحلاج"، فلا يغيبنّ عن أذهاننا أن المؤلف في بداية الأربعنيات من عمره حين أصدر هذا العمل، وقد أشار بوضوح إلى أن كتابه لا يريد أن يكون دراسة أكاديمية. بل يؤكّد عبد الصبور في سياق تفصيل هذه النقطة أنه لو أراد أن يكون عمله كتابة تاريخية أكاديمية لما استطاع، ويقدّم تبريراً طريفاً لذلك: "لن يستطيع العاشق أن يسبر روح حبيبته بالمسبار، وما مصر إلا معشوقتنا".

بفضل هذه اللطائف التعبيرية، ينجح عبد الصبور في إقناع قارئه إلى حين. لكن، وبعد أن نغلق الكتاب، قد يصحبنا تساؤل لا نملك إسكاته: ما دلالة هذا الإقرار بعدم استطاعة كتابة تاريخ للفكر العربي؟ ليس الأمر متعلّقاً بالشاعر المصري تحديداً، فقد كانت له أولويات أخرى في حياته القصيرة. الأمر أوسع من ذلك، فلا نجد إلى اليوم مشاريع لكتابة "تاريخ أفكار" ضمن مجمل الثقافة العربية المعاصرة. تاريخ أفكار لا يكبّل نفسه بقيود الأكاديميا، ولا يظل مجرّد إضاءات برقية.

المساهمون