تتبع المؤرّخة الفرنسية المختصّة في تاريخ الهجرة، دولفين دياز، خطوط سير المهاجرين والمنفيّين في أوروبا، من خلال كتابها الصادر أواخر العام الماضي عن دار "غاليمار"، والموسوم "في المنفى: اللاجئون في أوروبا منذ نهاية القرن الثامن عشر إلى اليوم".
يستند العمل إلى جهد بحثيّ واسع، من خلال العودة إلى الأرشيف، والشهادات المكتوبة، والتسجيلات والصور، التي تركها منفيّون ولاجئون، وصولاً إلى المقابلات الشخصية مع لاجئين، وناشطين في مجال حقوق الإنسان، ومعنيّين بمسألة اللجوء والهجرة.
على مدار سبعة فصول، يقتفي الكتاب أثر المنفيين واللاجئين، ليس فقط مَن كان منهم اسماً لامعاً في سماء الفكر أو السياسة، بل أولئك الذين يمكن لكُتب التاريخ أن تنساهم، من عمّال ونساء وأطفال وأصحاب مِهَن حرفية ويدوية، ينتقلون من مكان إلى آخر، إثر كلّ أزمة أو حرب، ويساهمون في تعمير بلاد جديدة.
يلحظُ الكتاب تحوّل المنفى في أوروبا إلى مؤسّسة سياسية خلال القرن التاسع عشر، الذي شهد هجرة ونفي عدد كبير من السياسيين والمفكّرين والأدباء بين العواصم الأوروبية، ومنهم: فيكتور هوغو، وكارل ماركس، وغاريبالدي... في النصف الأوّل من هذا القرن، ستسود صورة بطولية للّاجئ السياسي، إذ كان أغلبهم من أصحاب المواقف السياسية المناهضة للسلطة. بينما ستنقلب الصورة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مع ازدياد أعداد اللاجئين والمنفيين، واختلاف منابتهم الاجتماعية والاقتصادية وانتماءاتهم السياسية، خاصة مع تفجّر حروب وانتفاضات عنيفة في القارّة، أدّت إلى حالات نزوح واسعة، ما ساهم بتراجع صورة المنفي وهالتها، لتحلّ مكانها مشاعر الشكّ والارتياب.
انقلبت صورة اللاجئ السياسي من بطل إلى مشكوك في أمره
خلال القرن العشرين، خلّفت الحرب العالمية الأولى موجة هجرة كبيرة، وفي مرحلة ما بين الحربين، أدّى صعود الفاشية والنازية في كلّ من إيطاليا وألمانيا لهجرات جديدة. أماّ المنفيون الجمهوريون الإسبان، فكانوا العلامة الفارقة لهذه المرحلة بعد هزيمتهم أمام فرانكو، وصولاً إلى الحرب العالمية الثانية وموجات النزوح التي شهدتها.
في مرحلة الحرب الباردة، شهدت أوروبا موجات لجوء سياسية قادمة من دول المعسكر الاشتراكي، كما عرفت الهجرة من الجنوب ما بعد حروب التحرير والتخلّص من الاستعمار، وحاجة أوروبا للأيدي العاملة، ومنها هجرة عمّال جزائريين ومغاربة ومن العديد من الدول الأفريقية. يُضاف إليها لاجئو سنوات السبعينيات القادمين من تشيلي والأرجنتين، ثم من إيران بعد الثورة الإسلامية. ليطبع انهيار جدار برلين (1989) عقد الثمانينيات، مع انتقال أكثر من 300 ألف ألماني من القسم الشرقي إلى الغربي من ألمانيا الموحّدة، وما تلاه من حركة هجرة بعد تفكّك الاتحاد السوفييتي، ودخول دول البلقان في حروبها الممتدّة طيلة فترة التسعينيات.
ينقد الكتاب سياسات اللجوء الأوروبية والتدابير التي اتّخذتها دول القارة خاصّة منذ مطلع الألفية، والتي ظهر أثرها المجحف بحقّ اللاجئين والمهاجرين خلال ما سُمّي "أزمة" اللاجئين عام 2015، والتي شكّل السوريون جزءاً كبيراً منهم، إذ تحضر قصصهم وشهاداتهم في الكتاب، إلى جانب شهادات عدد من اللاجئين واللاجئات العرب في مرحلة ما بعد الربيع العربي، التي يقاربها الكتاب بجِدّة ورصانة، وبموقف نقدي واضح من السياسات الحكومية، والدعاية الإعلامية المعادية للمهاجرين، بالتحديد القادمين من دول عربية ومسلمة.