في كتابه "ما وراء مبدأ اللذّة" (1920)، يشير سيغموند فرويد إلى أن النفس البشرية في بحث مستمرّ عن مصادر لِلذّة، وأنها إذا ما خبرتْ لذًّة ما، فإن من الصعب جدّاً أن تتخلّى عنها، وأن الشيء الوحيد الذي يمكن فعله في هذه الحالة هو استبدال الغرض الذي يزوّدنا باللّذة بغرض آخر.
يمكن لكلام مؤسّس التحليل النفسي أن يشرح العديد من السلوكيات البشرية، من الإدمان أو تدخين التبغ إلى إضاعة الوقت على مواقع التواصل أو أمام ألعاب الفيديو والتلفاز، وليس انتهاءً بالشراهة في الأكل أو في الاستهلاك بشكل عام، والرغبة المستمرة بشراء سلع جديدة. لكنّ تحليل فرويد ــ رغم تصويره الضروريّ للعملية النفسية التي تقودنا إلى تصرّفات كهذه ــ لا يزوّدنا بعدّة مفاهيمية للإلمام على نحو أوسع برغبة الإنسان المفرطة في كلّ شيء تقريباً، وهي عدّة يحاول العدد الجديد من مجلّة "فلسفة" الفرنسية (تشرين الأول/ أكتوبر) اقتراح بعضٍ منها، عبر تخصيص ملفّه الشهري لمسألة الاعتدال.
يأتي فتْح هذا النقاش في وقته، ضمن سياق تذكّرنا فيه الأزمة البيئية والمناخية بإفراطنا في استهلاك الطبيعة ومواردها، وتعلّمنا فيه الحرب الروسية على أوكرانيا ضرورةَ الاقتصاد في كلّ شيء تقريباً، من الكهرباء والماء والغاز إلى الخبز والمواصلات وغيرها.
لكنّ الأمر ليس بهذه السهولة، كما نعرف جميعاً. فالرغبة، بطبيعتها، تميل إلى اللانهائي، إلى ما لا يمكن القبض عليه تماماً، كما يشير الباحث مارتان لوغرو في مقاله الافتتاحي للعدد. وهذا التوجّه إلى ما ليس له حدود، وإلى ما لا يمكن إشباعه، هو ما يميّز الرغبة عن الحاجة ـــ التي يمكن سدُّها. على أن القضية، كما يضيف لوغرو، لا تتوقّف عند الاقتصاد. فالحاجة إلى الاعتدال تضعنا أمام مواجهة مع "المشروع الحداثي" برمّته، باعتبار أنه هو الذي أورثنا تلك النظرة إلى الإنسان ككائن محكوم بتجاوز الحدود والبحث عن اللانهائي، ليس فقط في استهلاكه بمعناه البسيط، بل حتى في بحثه عن السعادة والجمال.
لا بدّ من إيجاد نموذج للسعادة يحتفي بالبسيط والممكِن
إرثٌ يختصره قول نيتشه: "لنعترفْ أن الاكتفاء بقدرٍ من الأشياء أمرٌ غريب علينا. ما يثيرنا هو اللانهائيّ، وكلّ ما بدا شاسعاً. ومثل المُحارب (...)، فإننا، نحن أهل الحداثة، لا نعرف السعادة المطلقة إلّا في تلك الظروف التي نعرّض فيها أنفسنا لخطر كبير".
وإذا كان كلام نيتشه قد جاء في وقتٍ لم تكن فيه الرأسمالية قد تمكّنت بعدُ من المجتمعات الإنسانية، فإنّ الرأسمالية باتت اليوم المغذّي الأوّل للشراهة في الاستهلاك. في حوار معه تقترحه المجلّة تحت عنوان "أن تعيش أفضل وتملك أقلّ"، يحلّل الباحث أوليفييه راي النحو الذي استطاعت الرأسمالية من خلاله تحويل النافل إلى غرض أساسيّ في عيون الناس، كما يضع يده على المفارقة في مطالبات الحكومات الغربية ــ ومنها الحكومة الفرنسية ــ لشعوبها بالاقتصاد، في الوقت نفسه الذي تصرّ فيه على المحافظة على إنتاجية صناعية عالية، بل على زيادتها.
ويرى راي أن الحلّ في هذه المعادلة لا يمكن أن يتمثّل في فرض التقشّف، كما جرى في أكثر من بلد خلال السنوات الماضية، بل ربما بالانتقال إلى نموذج للسعادة البشرية يحتفي بالبسيط والممكِن، وهو ما يجنّب الناس الإحساسَ بالنقص أو العوز الذي قد يعنيهما التقشّف.
وإضافة إلى مقالات حول ضرورة التوافق مع الطبيعة، والتصالُح مع مسألة الاكتفاء، إلى جانب مقال حول ضرورة التعلّم من الفن المينيمالي، الذي يصوّر الجَمال بأبسط الأدوات، فإن ملفّ المجلّة يقترح، أيضاً، قراءة تاريخية يقدّمها ميشيل إلتشانينوف في تعامُل الفلسفة مع الإفراط ودعوتها، منذ أرسطو والرواقيين حتى هنري ديفيد ثورو، إلى الاعتدال في الخُلق والسلوك، وحتى في الاستهلاك، كما سبق لأبيقور أن قال في "رسالة إلى مينيسيه": "كلُّ الخير، في رأيي، أن يكون المرء مكتفياً بذاته، ليس لأن عليه أن يعيش على القليل، ولكنْ حتى يعتاد على الاكتفاء بهذ القليل إذا ما حدث وافتقر في يوم ما إلى الوفرة".