عمَد الجهد النقدي على تجييل الحركة الشعرية العراقية بدءاً من الأربعينيات حتى يومنا هذا، وبظهوره عكسَ مصطلحُ التجييل هشاشة مُصطلحات أخرى مثل: "موجة، وتجربة، ومرحلة" وعدم رسوخها لأنّها لم تستطع تكوين رؤية شاملة لما هو سياسي وأدبي واجتماعي كما في مصطلح جيل. ويمكنُ إرجاعُ الأمر لعدّة أسباب منها: غزارة الحركة الشعرية وتشعُّبها، وقدرتها على التحوُّل والتجدُّد في كلّ عقد مع ظهور جيل جديد يَحمل هَمَّ التخلُّص من سطوة الآباء مع الاستفادة قدر الإمكان من تركاتهم.
ويُعدُّ جيل السبعينيّات الشعري في العراق أوّل جيلٍ خاض غمار التخلُّص من ظلال الآباء وتأثيراتهم الفنّية والسياسية، فقد وجد شعراء جيل السبعينيات أنفسهم وَرثَة لأجواء صاخبة وصراعات مُستعِرة. قضى شعراء جيل السبعينيات فترة طويلة داخل العراق ممّا جعلهم أمام صعوبات التخلّص من الإفرازات السياسية، حيث كانتِ الانتماءات الحزبية سائدة ويصنّف كلُّ شاعرٍ حسب انتمائه الحزبي أو متبنّياته السياسية. لكن من بين الشعراء هناك من حاولوا الفرار من هذا الفخّ مُحقّقين جفاءً مع السياسة التي تُلقي بثقلِ ظلالها على قصائدهم. ويعدُّ علي جعفر العلّاق أحد أبرز هؤلاء الشعراء الذين حافظوا على قصيدتهم بعيداً عن الشحن الدلالي السياسي بدءاً من مجموعته الشعرية الأولى "لا شيء يحدث.. لا أحد يجيء" (1973)، حتّى آخر مجموعاته الشعرية "فراشات لتبديد الوحشة" 2021.
حافظ العلّاق في مجموعته الجديدة على الأسلوب الذي ابتدأ به مشواره الشعري، وهو الابتعاد عن المباشرة الأيديولوجية مع مواصلة التجريب اللُّغوي، تحت مظلّة التزامه بقصيدة التفعيلة بوصفها خياراً فنّياً يستوعب طروحاته، ويتّفق مع متبنّياته الثقافية.
يجمع الديوان الليلَ والنهار بعلاقة طباقية مُلغزة
جاءت المجموعة مُقسَّمة إلى أربعة أبواب، كلُّ باب يَحوي مجموعة قصائد تتراوح في طولها بين القصيرة والقصيرة جدّاً، وكلُّ باب حمل عنواناً ينطوي على كشف لماهية القصائد التي يحويها.
امتازتِ المجموعة ببناءٍ صُوري متعدّد، حيث تتنوّع الصوَر الشعرية بين الصورة الشعرية المُفردة ذات الالتحام الدلالي، وبين الصورة الشعرية المركّبة ذات الأبعاد النفسية والعاطفية. ففي الباب الذي حمل عنوان "نصيحة البحر للغرقى" نجدُ الصور الشعرية المُفردة حاضرة في عدّة قصائد، يقولُ العلّاق في القصيدة الأولى التي حملت عنوان "أحزان بدائية":
"يريحُ
الليلُ هيكلَهُ على حجرٍ
خرافيٍّ، ويومئُ حيثُ نجمتُنا
القديمةُ، نرتقي معهُ:
مغنّونَ بدائيون".
يصنع من خلال صورة الليل ذي الهَيكل بيئةً ليليّةً خُرافيةً، فيها من الحنين ما يَظهر بين فعل الغِناء البدائي في تجمُّعات السَّمر، وبين صورة الحجر الخرافي ذي البُعد الماضوي أيضاً مع إشارة لنجمة هي رمز الحنين إلى زمن كان الغناء فيه نشوةً يرتقي لها الشاعرُ وصحبتُه ثم يعود في القصيدة نفسها يقول:
"لا مدنٌ نرافقها إلى مرعىً
يربّي الخيلَ والكمأةَ...
لا ليلٌ نمشّطُ شعرَهُ المائيَّ بالناياتْ
ونعصرُ من قصائدنا رقىً تشفي
من النسيانِ والغِلْظةِ
والحيّاتْ...".
وهُنا يَمنح اللّيل صورةً تتكاملُ مع صورة المقطع الأوّل، فهو يرثي ليلاً يتهاوى ظلامُه مثل شعر أسود، ليلاً بدائياً في مدنٍ بدائيةٍ تحوي مراعي خيول ومنابت كمأ، مستخدماً أسلوب التشخيص في منح المواد الحسية روحاً ومظهراً متغيّراً. فالليل ذو الهيكل في مطلع القصيدة له الآن بُعدٌ ملموسٌ هو ظلامُه المنسدل كشَعرٍ أسود طويلٍ. ويستخدم كذلك أسلوب الوصف والتشبيه لأجل أن يكتمل المشهدُ العامّ بعناصره الجزئية من: "ليل، ومدينة بدائية، وأنثى تنتظر"، وكلّ ما يرتبط بهذه العناصر من مُفردات بيئية تمنحنا في نهاية القصيدة صورةً تتناسب مع نبرة الرثاء وخاتمة القصيدة التي يواجه فيها الشاعر خسارته لأجمل لحظاته:
"أحبو وحيداً حافياً. أُصغي
إلى حُلمٍ قديمٍ، أَقتفي أثَرَهْ...
إلى ليلٍ، طوالَ الليلِ، يَمنحني كواكبَهُ
البطيئةَ، حيث لا صحبٌ بدائيّونَ ينتظرونَ...
لا أنثى الغيابِ المرِّ
منتظِرةْ...".
يستمرّ في بناء المناخ الذي حدَّدنا عناصرَه من عنوان الباب "نصيحة البحر للغرقى" وما يتَّصلُ به من متعلّقات، مع تأكيدٍ على بدائية هذا المناخ وأجوائه التي تَعود بفعل لُغوي استعادي إلى براءة يفتقدها الشاعر في الزمن الحالي، حيث يقولُ في قصيدة "رحلة الشتاء والصيف":
"زمنٌ عزَّ فيهِ النبيّونَ...
لا بهجةُ الاكتشافِ
ولا رحلةُ النضْجِ...".
ويظهر ذلك التأكيد على البدائية بشكلٍ جليٍّ حيث تتكرَّر كلمة بدائي، وما يُشتقُّ منها تسع مرات في الباب الأوّل، لذلك تُعدُّ الصور الشعرية المُفردة التي استخدمها العلّاق في قصائد الباب الأول تمثيلاً لبدائية أجواء هذا الباب وبساطتها.
أمّا الباب الأخير من المجموعة فقد كانت صُوره الشعرية من النوع المركّب، فهو يستعين بطبقاتٍ من الإشاراتِ الدالّة التي تُكوِّن مُعادلاً شكلياً للموضوع والفكرة، بدءاً من عنوان الباب "شمس محلولة الضفائر" ذي الدلالة الإشارية إلى أجواء هذا الباب النهارية. إلّا أنّ النهار هُنا ليس بدائياً كما في ليل الباب الأوّل، بل هو نهار معقدٌ ذو طبقات لا تكشفُ نفسها، نهار يحتاج تأويلاً وينطوي على أسرار وألغاز، ونجدُ التصريح عن ذلك في قصيدة "وانحلّتْ على الأشجار شمس الصيف":
"كانت الشمسُ الخريفيةُ أبهى...
حفنةٌ من ضوئها الباردِ
يستعصي على الرؤيةِ...".
ولن يتعبك العلّاق إذا تابعتَ خيوط القصد التي يمدُّها أمامك في العناوين، ثم تجدُ أنّها تربطك بفضاء واسع من الدلالات والمعاني التي تتكاملُ مع بعضها البعض لإنتاج قصيدة ناجحة، تصلُ هدفها الدلالي بوضوح مكتسيةً بالتركيب اللغوي الذي يعادلها موضوعياً، في القصيدة نفسها يقول:
"رذاذٌ، عارياً يمضي
إلى عمقِ البحيرةْ...
دمعةٌ
من
وترٍ
يجرحُها قوسُ الكمانْ...".
تشخيصُه الموادّ الحسية منحها روحاً ومظهراً متغيّراً
بناء الصورة هنا فيه طبقات ثلاث، الأولى هي الرذاذ الذي يمضي وميزة هذا الرذاذ التلاشي، إلّا أن مآل هذا الرذاذ هو عُمق البحيرة الذي ستتكثّف فيه ذرّاتُه على شكل دمعة. وهذه الدمعة بصورتها الأعمّ مُنسدلة من وتر كمان، فأصبحت هنا لدينا طبقتان لصورة واحدة، ثم يُجيء قوس الكمان ليجرحها مانحاً إيّاها ثلاث طبقات، إنّها مراحل بناء الصورة في هذا المقطع من القصيدة. تتواتر الصور المُركّبة في هذا الباب مُحقّقة غايتها الفنّية:
"غيمةٌ جافّةٌ
ونَسرٌ لم يعد جديراً
بمخالبه يتعلّقُ بأذيال
شجرةٍ عاريةٍ...".
هنا صورة الشيخوخة تتعدّد لأكثر من تشخيص، وتتكرّر بأكثر من وصف، فالنسر الذي فقد جدارته وتحوَّلت مخالبُه المفترِسة إلى وسيلة نجاة أخيرة، هو صورة لنهاية المطاف. ولا يتوقّف التصوير هنا بل يمتدُّ إلى تشخيص آخر هو الشجرة العارية، والعُري هنا هو اللباس الذي تظهر به شجرة متساقطة الأوراق يتشبّث بها نسر عجوز، ثم في المقطع الثاني تظهر صورة أُخرى للشيخوخة بعناصر مختلفة كلّ عنصر ذو دلالة على كبر السن وقلّة الحيلة:
"وثمّة رجلٌ
وراء سياجِ بيته المُتهالك..
يغرقُ في
كرسيّهِ
وحيداً...".
هنا أيضاً، مشهدٌ آخرٌ للشيخوخة بعناصر مُختلفة هي تحوّلٌ عن عناصر المشهد الأوّل، فالرجل هنا هو النسر هناك، والبيت المتهالك هو الغيمة الجافّة، والكرسي هو الشجرة العارية. وتتكرَّر نفس العناصر الدالّة على الشيخوخة بمُفردات أُخرى في المقطع الثالث، فالعكّاز وركام السنوات هي التحوّلُ الثالث لصورة النهاية التي قدّمها العلّاق على مستويات عدّة هي تأكيد لوحشةٍ راهنة يهجوها الشاعر بشكلٍ غير مُباشر. ويظهر هذا الهجاء في الحنين إلى زمان ولَّى، قد ينتمي إلى عالم طفولة الشاعر أو صباه، كلُّ ذلك يحدث ضمن آليّة فنّية تقرُّ بمُراد الشاعر الذي حاول أن يقول إن النهار الظاهر يستبطن في داخله نهارات عديدة تغيب عنها الشمس:
"وعلى مبعدةٍ منه
عكّازةٌ لم تعدْ تقـوى
على حمل هـذا الرُّكام
من السنواتْ...".
قدّم العلّاق كذلك الصورةَ المعتمِدة على الحواس، وهي من ميزات شعره. وتُعدّ الحواس قوامَ هذه الصورة الشعرية لأنّها حافزٌ لانفعال الشاعر الذي يولِّدُ في مرحلة متقدّمةٍ استعداداً نفسياً للكتابة، وكذلك يقصد من استخدامها استثارة حواسِ القارئ حتّى يبلغَ التأثير فيه أن يكاد يَلمِس أو يَرى أو يَشمُّ ما يقوله الشاعر. تظهر هذه التقنية خلال المجموعة في قصيدة "كان يذوي وحيداً" المُهداة إلى مظفّر النواب، ويقول فيها:
"ترفرفُ ما بين عينيه رائحةٌ لغيابٍ وشيكْ
لا يُرى بَـدْءهُ، لا يرى منتهاهْ...
لا يحفُّ بهِ، في تموّج هذي المرايا، سواهْ".
يتحايل الشاعر في الصورة أعلاه ويمنح الغيابَ الوشيك رائحةً رغم أنّ الرائحة تقترن دائماً بالحُضور وتدلّ عليه، لكنّه هنا يستفزُّ حاسّة الشمِّ لدى القارئ من خلال كسر نمطيّة الإحساس ويجعل للغياب، الذي هو صورةٌ لعدم الوجود، وجوداً تدلّ عليه الرائحة. وهذا الغياب الذي سيحدث هو نبوءة تحملُها الرائحة التي يقترحُها الشاعر كأن تكون زوال رائحة الحاضر الموجود وتلاشيها. ويتأكّد الغياب في المقطع نفسه بصورة حسّية أُخرى تعتمد على حاسّة البصر، فهو غياب لا تمكن رؤية بداية له أو نهاية. ومن خلال التوجّه إلى حواس القارئ استطاع أن يوصل الغيابَ الذي تُدركه حاسّة الشمّ وتتنبّأَ به بينما يستعصي إدراكُه على حاسة البصر. بذلك يكون العلّاق قد قدّم في مجموعتَه هذه أكثر من نموذج لبناء الصورة الشعرية، سواء الفردية التي تعتمد على الوصف والتشخيص أو المركّبة التي تتضّمن صوراً جزئية ضمن مشهد عام، فضلاً عن الصورة التي تعتمد على الحواس وتُخاطبها.
* شاعر من العراق