لا يرى من يشاهد الفيلم التونسي "غُدوة" سوى أنه عمل سياسي. وكونه كذلك لا ينفي صفة الإنسانية، التي أراد مخرج ومنتج وبطل الفيلم، ظافر العابدين، استعمالها لإبعاد أية صفة سياسية عن أول فيلم يُخرجه. قبل أن نتعرّف إلى خطوط الفيلم، من الوجيه التذكير بأن العابدين كان قد تقدّم به إلى "أيام قرطاج السينمائية" في الدورة الأخيرة التي انطلقت في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي. رُفض الفيلم دون تقديم بيان يوضّح موجبات الرفض، فحمله صاحبه فوراً إلى "مهرجان القاهرة" الذي تلا مهرجان بلاده بشهر، ونال هناك "جائزة الاتحاد الدولي للنقاد".
وبالطبع دائماً، لا ترفض مؤسسة سينمائية مشهورة فيلماً في أول مغامرة إخراجية لمواطنها، وهو نجم معروف سينمائياً وتلفزيونياً، إلا لأنه غارق في السياسة. إن موضوعه من الألف إلى الياء: العدالة الانتقالية. منذ أيام، أتيحت لجمهور السينما في الدوحة مشاهدة الفيلم ضمن "المهرجان الثقافي التونسي" الذي أقيم في "كتارا" ما بين 16 و20 آذار/ مارس الجاري، وسالت دموع البعض لسبب أوحد وهو أن الفيلم ألقى بهم في تجربة مؤلمة لواحد من آلاف الضحايا الذين نكّلت بهم أنظمة الاستبداد في تونس.
ها هي المقولة الشهيرة "الإنسان كائن سياسي" لا تحتاج إلى حفر تنظيري، بل مواجهة سقف واطئ من الحريات يُضطهد تحته العالم والعامل، إما بقبوله أو رفضه وكلاهما موقفٌ سياسي. هذا يصبّ في رصيد أي فيلم، دون الحاجة لأن يقول صاحبه "إننا اليوم سنحكي قصة سياسية" ودون الاضطرار للقول إنه إنساني. الإنسان ليس مستحاثة ما قبل التاريخ، بل تاريخ معاصر من الألم والأمل. يؤدي ظافر العابدين دور "الحبيب"، المحامي المدافع عن حقوق الإنسان، (إنسان سياسي)، والوحيد الآن في شقته، بعد انفصاله عن زوجته، ولديه ابن مراهق (أحمد بن رحومة) انتقل للعيش معه بعد تدهور صحة والده النفسية، وقد عانى تحت حكم المخلوع بن علي من السجن والتعذيب.
لأسباب سياسية جرى تهميش الفيلم في تونس العام الماضي
هناك اثنان يطارِدان الضحية في الشوارع، سواء أكان ذلك وهماً بسبب من الاضطراب النفسي، أم حقيقة فإن ذلك يضعنا مباشرة. إن كان وهماً، فهو نتاج الحال المتردية التي بلغها الرجل الضحية الذي من الخوف لا يقفل الباب فقط بالمفتاح، بل يحكمه أكثر بمزلاج حديد. وإن كان حقيقة، فإنما يشير إلى شخصين يطاردان "الحبيب". من هما هذان الشخصان اللذان يزعجهما شخص أعزل يردّد دائماً ثلاث كلمات: الحقيقة، العدالة، المصالحة؟
يصادف أن يسمع الابن كلمات الأب الذي يُغلق على نفسه الباب ويردّد بينه وبين نفسه الكلمات، كأنه يخشى أن يفقدها من الذاكرة. الذاكرة، والحقيقة والعدالة والمصالحة هي في صلب أدبيات هيئة "الحقيقة والكرامة" التي عملت بين عامي 2013 و2018، سعياً إلى "إلى تحقيق المصالحة الوطنية وحفظ الذاكرة الجماعية وتوثيقها وإرساء ضمانات عدم تكرار الانتهاكات والانتقال من حالة الاستبداد إلى نظام ديمقراطي يكرّس منظومة حقوق الإنسان، وجبر الضرر للضحايا ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات".
قصة الفيلم هي قصة الحقيقة والعدالة ثم المصالحة. أي ان المحامي الضحية الذي ظل بشكل محموم يُردّد "الحقيقة - العدالة - المصالحة"، يتحدّث باسم 63 ألف ملف، درستها هيئة "الحقيقة والكرامة" وتغطي الفترة من 1 يوليو/ تموز 1955 حتى 24 ديسمبر/ كانون الأول 2013.
والقصة هي إذن عن 58 عاماً ونصف من الانتهاكات، ولم تقع محاسبة المسؤولين عنها وجبر ضرر الضحايا، بسبب التجاذبات السياسية التي رأى كل فريق فيها أنه بريء من التهمة، وعليه لنقفل الملفات ونذهب إلى توافق ومصالحة فوراً.
في الثلث الأول من الفيلم، كان هناك تطويل يمكن تجاوزه. فالمخرج- البطل وضعنا مباشرة أمام شخصية مضطربة، أحسن أداءها العابدين، لكنها ركزت على انفعالاته، بينما هذا النوع من الأفلام يزيد الحوار، حتى الطويل منه في كادر واحد من قيمته.
تبدو النهاية مكرّرة لكنها حافظت على شحنتها التأثيرية
الأب هو الذاكرة، والابن هو المستقبل. هو "غدوة" الكلمة الفصيحة التي حافظت عليها الدارجة التونسية، وتعني "البُكرة" مع طلوع الشمس. وهذه العلاقة بين جيلين من سلالة واحدة منطقة خصبة لنص كاشف، تحديداً لأنهما في شقة صغيرة مغلقة، والحوار خيار جيد كي يثريها. ومفردات الحقيقة والعدالة والمصالحة يمكن أن تطرح بينهما على طاولة الطعام، حتى لا يشعر المشاهد بأن انفعالات الشخصية الوحيدة المضطربة باتت فائضة عن الحاجة. لقد جمعتهُما الطاولة عدة مرات، حيث الأب لا يعرف من الطبخ سوى الباستا التي يأكلها الابن على مضض ويسميها "ماسطة" بالدارجة التونسية، وتعني "الرديئة".
يلعب الابن دور الأب في رعاية رجل أعزل شجاع ومخذول وذي وعي سياسي ما زال يدفع ثمنه. يبحث عنه في الحارة ليجده أخيراً جالساً على حافة السطح، هو ذاته الذي خرج لشراء السجائر حافياً، ليعود دائماً إلى شقته محموماً خائفاً من ضياع ملف يريد لكل التونسيين أن يعرفوا ما به من إدانات للاستبداد، ولكن أيضاً إدانة للمصالحة، هذه الكلمة النبيلة التي تحوّلت إلى تسوية بين نخب سياسية تبادلت الحكم ما بعد الثورة بالقفز عن الحقيقة والعدالة.
يقرّر "الحبيب" عدة مرات الهجوم بملفه على دار القضاء، لكنه يطرد كما في كل مرة، إلى أن يغافل ابنه ويخرج هذه المرة بلا موبايله، متوجهاً إلى بيت الوزير الرفيع، وعند البوابة المحروسة جيداً تقع المواجهة بين الحبيب والوزير، الأول يسأل عن الحقيقة والعدالة والثاني يقول إن هذا ملف أغلقته المصالحة. ولشخص لا يملك من سلاح سوى صرخته، مشهراً للوزير تصريحات صحافية سابقة حول العدالة، ينتهي الحوار بضربه ودوسه على الأرض.
كان أمام ظافر العابدين ثلاثة مصائر لشخصية الحبيب، إما أن ينتحر عن السطح، أو يذهب إلى مصحة علاجية، أو يدخل السجن من جديد. ومع السيناريست المصري أحمد عامر، اختار العابدين النهاية الأخيرة، في اللحظة التي أذعن فيها الحبيب ووافق على الذهاب للمصحة، لكن الشرطة تفاجئه في الشارع وتعتقله بدعوى الهجوم على بيت المسؤول السياسي. وحين يصرخ منادياً ابنه الذي ائتمنه على الملف، يركض الابن خلف سيارة الشرطة، هاتفاً بأنه سيكمل مشوار أبيه.
هي ذاتها القفلة مكرّرة كما وقعت في المشهد الأخير من فيلم "ليلة القبض على فاطمة" حين يأخذونها (فاتن حمامة) إلى المصحة بينما يركض أهل الحارة خلفها مردّدين "احنا معاكي مش هنسكت"، وهي ذاتها في فيلم "عمر المختار" بعد مشهد الإعدام، حيث تسقط نظارة المختار ويلتقطها صبي ويكمل المسير مع الجموع.
غير أن هذا النوع من التكرار رغم سهولته، لا يفقد تأثيره، وتظل عاطفته مقبولة حيث العدالة الانتقالية في كل مكان كالنهر لا تضع فيه رجلك مرتين، وحيث "تونس تمرض ولا تموت" تقال بكل اللغات وتبقى نابضة.