"صالون هدى"... الشرف الرفيع الذي لا يسلم من الفكاهة

13 مارس 2022
(لقطة شاشة من الفيلم)
+ الخط -

دعك من كلّ الهجوم والدفاع، عبر مواقع التواصل، بشأن فيلم "صالون هدى" للمخرج الفلسطيني هاني أبو أسعد، فهذا مثل فورة مشروب غازي يصل ذروته ويذوي كأن شيئاً لم يكن.

إذا أردنا للنقاش أن يثمر، علينا أن نزور نقابة أصحاب الصالونات و"المنتخب الفلسطيني للتجميل". النقابة معروفة، أمّا المنتخب، لمن لا يعرف، فهو الذي يمثل فلسطين في بطولة العالم للتجميل.

هذا الجسم النقابي (ومنتخبه) أصدر بياناً من النوع الذي يبدأ بـ"إنه"، وقد كنا نسمعها في إذاعة البيان رقم واحد: "إنه وفي الوقت الذي يتعرّض فيه أبناء شعبنا إلى أشرس وأعنف هجمة من قبل الاحتلال وأدواته (...) تخرج علينا ثلّة مارقة استباحت أعراف وتقاليد شعبنا، واستباحت كلّ ما هو محرّم شرعاً وخُلقاً".

المشتغل بمهنة التجميل في أي مكان لا يمكن أن يخرج ببيان وطني إذا طرح فيلم قصّة حلاق اغتصب طفلاً في محلّه. والمشتغل في مقصب آلي أو ملحمة لا يضيره إذا شاهد فيلماً بطله رب عائلة لا يقطع فرض صلاة، ولكنه يبيع الناس لحم حمير.

وكذا المرتشي والقاتل والزاني زنا محارم، والخائن، وآكل مال حرام، إن كان شرطياً أو معلماً أو طبيباً أو مهندساً، أو محامياً.

لنستعر من ميلان كونديرا وصف "التدنيس الروائي"، أي "نقل المقدس خارج المعبد"، ولنر كيف يرى صاحب صالون التجميل هويته الوطنية تُستباح، فوق استباحتها من الاحتلال الاستيطاني.

كان من الأفضل أن نبدأ بمقدّمة عن فيلم "صالون هدى"، حتى يعرف القارئ عمّا نتحدّث. لكن هذا أبداً ليس مهماً. كما هي كل مرّة، يمكنك أن تنضمّ إلى مئات المعلّقين الذين يقولون "رغم أنني لم أشاهد الفيلم"، ثم يكيلون النعوت المقذعة حتى التخوين.

وإذا كان ثمّة شخص وحيد معزول في الأمازون من حقه أن يعرف، فإن هدى صاحبة صالون، ساقطة بالاصطلاح المعروف لمن يصبح مسقطاً أو متساقطاً، يعمل لحساب "الشين بيت" أو "الشاباك" اختصاراً لجهاز الأمن الإسرائيلي، ويشي بالمناضلين، وبدوره يعمل على إسقاط آخرين، مقابل مكافآت مالية.

الجنس بما هو صور وفيديوهات مستمسك جيّد، ويصبح أشد مضاء في مجتمع محافظ. هذا ما يدركه الاحتلال، مثل أي احتلال لا يضمن انتصاره بالقوة الغاشمة وفارق التسلّح بينه وبين من أصحاب الأرض؛ إلا بالتغلغل في النسيج الاجتماعي وإضعافه، حتى يصبح مجموعة كائنات حية في محمية، يمر بها السياح، ويلتقطون الصور.

تبدو الضحية ذات حساسية عالية ضد ما يمس هويتها. لذا تصبح لغة أصحاب صالونات التجميل متفهَّمة، دون أن يعني ذلك الموافقة عليها.

متفهَّمة، لأن الاحتلال حاضر في كل مقصّ ومشط وكْريم شعر، وفي كل خطوة تقطعها الأرجل، وفي كل وقفة قد تجعلك مشتبهاً به.

هذا يعني أن مهنة بعينها ثبت استغلالها في مكان ما لإسقاط فلسطينيين وفلسطينيات، يجد أصحابها أنفسهم مدفوعين لشتم طاقم "صالون هدى" وعلى رأسهم أبو أسعد، لأن رواية الكف التي تقاوم المخرز تحتاج إلى حماية، وهي بالفعل تحتاج، بينما الاحتلال جاثم بغطرسة مدججة، مدعوماً ببرنامج إهانة عربي للفلسطيني غير مسبوق في تاريخ القضية.

لكن آخرين، ومنهم هاني أبو أسعد، يرون النقاش والنقد حقّاً يطرح بين الضحايا، لذات الهدف الذي يريده الطرف الأول، وهو: الحماية. وعليه فإنّ نقد المجتمع الفلسطيني ضرورة صحية وعلاقتها بالرواية الوطنية، والشرف الوطني، ليست إلغائية.

في فيلمه المعروف "الجنة الآن" (مرشح الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي 2005)، تحضر عمالة الأب الذي نفّذ فيه حكم الإعدام، ثقيلة على كتف الابن سعيد (قيس ناشف) الذي يقرّر تنفيذ عملية استشهادية لمسح هذا العار.

هذا جزء من الفيلم الذي استلهم مادته من سلسلة عمليات نوعية وجدت العنف المسلّح عبر تفجير الإنسان الفلسطيني جسده، خياراً كنا على الدوام نشهد الترحيب به في شوارع الوطن العربي.

وهو في المقابل خيار تعرّض للنقد أو في الحد الأدنى للنقاش بشأن جدواه، وفيلم "الجنة الآن" إحدى المنصّات التي طرحته "خارج المعبد"، أي خارج الرمزية الدين- وطنية.

مخرج فيلم "صالون هدى" وكاتبه أيضاً قرّر هذه المرّة أن يضع العمالة والإسقاط تحت كشاف ساطع، مستنداً إلى رسالة إحدى المُسقطات التي انتحرت، لأنها لم تجد مخرجاً، بعد تصويرها عارية، وبعض المواد على الإنترنت كما قال.

أمّا وقد كان صالوناً على وجه التحديد، فمرجعيته الأشهر كتيّب "الضحية تعترف" الذي صدر قبيل الانتفاضة الأولى 1987، حول العميل مازن الفحماوي، وقد جنّده "الشين بيت" قبل سنوات حين كان في الرابعة عشرة، واعترف بالتعاون مع صالون جرى فيه تخدير واغتصاب عشرات الفتيات وتصويرهن وابتزازهن لتجنيدهن لصالح الاحتلال، ووفق الكتيّب فقد أعدم خنقاً برباط حذائه.

يورد "الضحية تعترف" الذي عرض بسرد روائي على لسان الضابط الإسرائيلي جان المسؤول: "لقد استطعنا النفاذ إلى صاحبة صالون الشروق المستخدم لتجميل الفتيات والعرائس، وقمنا بتجنيدها لصالحنا وطلبنا منها إيقاع الفتيات، وتوريطهن داخل الصالون".

ثم أطلق تنهيدة قوية مستطرداً: وسيكون هذا هو وكر الإسقاط في المستقبل".

ليس الصالون مكاناً أوحد فيما يسمّونه "بنك الأهداف"، فهناك محلات الملابس النسائية مثالاً، دون إغفال الأماكن التي يمكن اصطياد الرجال فيها وابتزازهم كالبارات وغرف الفنادق.

وفي الجملة، فإن سرّية هذه الملفات وفضحها على يد المقاومة يبقيان صراع قوى وإرادات وإمكانات، بينما حالة الهلع التي أطبقت على الناس، وخصوصاً النساء، كان الهدف الأعمق منها جعل الحياة دائماً على الحافة.

تبعاً للنمط الهوليوودي، فإن سينما أبو أسعد تبحث عن نقطة التوتر المركزية في قصة يتضافر كل السيناريو لدعمها. هذا يجعلها سهلة ومقبولة لدار سينما أميركية.

غير أن المخرج قدم نسختين، واحدة لمشاهد أجنبي ليس لديه أي مانع في رؤية ريم (ميساء عبد الهادي) تُعرّى كاملاً بعد أن خدرتها صاحبة الصالون، بينما شاب فلسطيني عار يتّخذ أوضاعاً حميمية معها لالتقاط الصور. عرض هذا من قبل في "مهرجان تورونتو" الكندي.

النسخة الثانية هي التي عُرضت أوّل مرّة للوطن العربي في "مهرجان البحر الأحمر" في جدّة السعودية، محذوفاً منها مشهد العري، احتراماً لثقافة الشرق وفق تصريح له.

وفيما يبدو أن النسخة المخصّصة للأجنبي جرى التساهل معها لتُعرض في "مهرجان بيروت الدولي لسينما المرأة" يوم 7 آذار/ مارس الجاري، لتقوم قيامة "الترند"، ولتُصدر وزارة الثقافة الفلسطينية بياناً مقتضباً تنفي علاقتها بالفيلم، ثم تنشر منصات إعلامية تفاصيل التفاصيل من مصادر داخل الوزارة تلاها بيان إنشائي طويل من الوزارة.

وُضع أمام لجنة مستقلّة بتكليف من الوزارة فيلما "الغريب" و"صالون هدى" لدخول منافسة الأوسكار 2022، وقرّرت اللجنة اختيار "الغريب". هذا أمر مفهوم فنياً. على فيلم واحد بين أفلام أن يُختار. إلّا أنّ في الأمر وجهاً فكاهياً، إذ أنّ النسخة المقدَّمة للوزارة كانت فيها "ريم" بملابسها، بينما طارت الملابس كلّها في النسخة التي يراها المشاهد الأميركي الآن.

نحتاج هنا إلى معرفة العقود التي توقَّع لإنتاج فيلم ومدى الالتزام بها، وهل من حقّ الوزارة أن تطلب تعديل السيناريو وأن يلزم به المنتج والمخرج؟

لا يجوز أن تشكو وزارة الثقافة وتولول بنفس الطريقة التي أقدم عليها أصحاب صالونات التجميل، فهي في بيانها تقول بالحرف إن الفيلم اتّسم بمعالجة "هذه القضايا بالسطحية والضعف (ما أعطى) نتائج سلبية معاكسة للهدف من تسليط الضوء على قضية إسقاط النساء"، وأنّ الفيلم "في لحظة ما يفقد علاقته مع الواقع".

هل كان هذا رأي اللجنة الفنية التابعة لوزارة الثقافة قبل إنجاز الفيلم أم بعده؟ وهل وقوع "الإساءة" لصورة السينما الفلسطينية في "المشاهد المخلّة بالأخلاق"؟

الصورة الشمسية لوزارة الثقافة هي ذاتها الملتقطة لرابطة الفنانين الفلسطينيين التي تلقت "ببالغ الخطورة" عرض الفيلم "لما فيه من مشاهد عارية مخلّة بالقيم الاجتماعية والدينية في مجتمعنا الفلسطيني المحافظ".

بالنسخة العربية المحجّبة لا يبدو الفيلم سيئاً، غير أنّ من حقّنا معاينة المنتَج الفني الذي يفكّر بنسختين، لطالما كانت النسخة التي توصل إلى الناشر والمهرجان والاعتراف، وتمويل الغرب محلّ شبهة، أو أقلّه الاستشكال.

مقابل ذلك، ماذا تفعل وزارة الثقافة الفلسطينية يومياً من صباح الرحمن، في رعاية فن وأدب من طراز عالي الجودة، لا يكون مثلما درج عليه القول "مدافع سيئ عن قضية عادلة"؟

ليس من الواجب فقط القول إنّ البنت كانت مستورة وأبو أسعد ضحك علينا. هذا فصل بعد المأساة والملهاة اسمه "المخزاة".

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون