مثل نجوم سهيل، والتنين، والزبان الجنوبي، يعرف ملّاحو الجو، 58 نجماً، بينما تحفظها الطيور المهاجرة بالغريزة، وهي تحطُ على أرض فلسطين بمئات الملايين خلال موسمَي الربيع والخريف. فإذا هبطتَ من خارطة السماء ستجد 58 مخيّماً فلسطينياً في الشتات، دون وطنهم حدودُ دولة الاحتلال، وحدود سايس بيكو المستعربة.
هذه هي خاتمة فيلم البريطانية سارة بيدينغتون "شجرة فاديا"، والمرشَّح ضمن منافسات "مهرجان كرامة لأفلام حقوق الإنسان"، المستمرّ في عمّان حتى غدٍ الأحد، على أفضل فيلم وثائقي؛ إذ تصعد قائمة أسماء المخيَّمات جميعها، بخط أبيض على لوح أسود، في لبنان، وسورية، والأردن، والضفّة الغربية، وغزّة، ترافقها أغنية ميسا ضو "تعال نروح ع عالم تاني".
طَوال 15 سنة، نشأت صداقة بين سارة، والفلسطينية اللاجئة في مخيّم برج البراجنة فاديا اللوباني، والتي بدءاً من 2017 ستصبح جدّة، أي ثمّة أحفاد سيكونون الجيل الخامس من اللاجئين المطحونين في مخيّم أُقيم بعد نكبة 1948 في بيروت.
من المتوقع أن تكون نيّة المخرجة البريطانية فيلماً آخر في برج البراجنة؛ فنحن أمام كاميرا ليست غريبة عن بيئة المرأة، الناشطة في المخيّم، والمعلّمة في روضة تضمُّ مع الفلسطينيّين أطفالاً لاجئين من سورية.
ليست غريبة عن أزقّة المخيّم المحطّمة، والمزدحمة، ولا الأسطح التي تطير فوقها رفوف الحمام وتحط، بينما يُسمع صفير الشباب الهواة، يسوقونها من سماء صغيرة إلى أصغر.
ليست غريبة عن صباحات القهوة، وفتح الفنجان، وأصوات الدجاج في الحوش، والكلام اليومي الذي يرشح بالسياسة، ومصائر العائلات، من بقي ومن غادر وتحصّل على جواز أجنبي، ولا عن الغرافيتي الذي يعج برموز وشعارات الشعب الفلسطيني.
باتت الشجرة رمزاً يتأكّد على رواية عائلة شُرّدت عن أرضها
تراءت لي في البداية رفوف الحمام استعارة مكرّرة، شاهدناها كثيراً في الأفلام، لكنْ سرعان ما بانت نية المخرجة التي انتقلت من برج البراجنة إلى فلسطين، وصادف (أو انتظرَت) موسم هجرة الطيور، فكانت تقرع سماء بسماء.
ماذا لدى السيّدة الفلسطينية المولودة بعد النكبة من إشارات إلى قريتها "سعسع" التي تبعد عن حدود لبنان بضعة كيلومترات؟ يمكن أن تلوح أرض أجدادها من الحد اللبناني عند قرية "مارون الراس"، إلّا أن الرواية الشفوية من جيل إلى جيل تحكي عن تفصيل أقرب، هو شجرة توت قرب مقام "ستنا نفيسة"، أو مقابل بيت جدّها.
تلتقط المخرجة الفكرة فيكون الفيلم. إنها بجواز بريطاني تستطيع الوصول إلى فلسطين المحتلّة، ومحاولة البحث عن الشجرة.
تغيُّر الوجهات أو تطويرها هو من تحدّيات وجماليات الفيلم الوثائقي. وعليه، أصبحت الحبكة الروائية في فيلم وثائقي تسير باتجاه شجرة توت، تتوسّط محيطها، نقلاً عن اللاجئين الأوائل، ثم ورثها الأبناء، "وإن الأرض تورث كاللغة" كما يقول درويش.
هي مصادفة شعرية فيلمية أن تأتي وراثة اللغة والأرض السليبة في ديوان "أرى ما أريد" ببصيرة عمّ السيّدة فاديا الضرير، الذي سيوصل المخرجة إلى "سعسع".
عُطبت عينا الرجل فيما بعد، لكنه حين طُرد من قريته كان مبصراً وعمره عشر سنوات، وهو يخبر "فاديا" عن طريق العودة من "رميش" في أقصى الجنوب اللبناني، وصولاً إلى قريتهم، وهناك بركة ماء، تليها بضع مغائر، وبعدها بمئة متر شجرة التوت بجانب بيت جدَّها.
لم يبق من آثار على بيت الجد سوى أحجار متناثرة، بينما كانت التوتة العملاقة مثقلة بثمارها الحمراء، وهو ما يعني أنّ المخرجة رتّبت تصويرها ليكون في موسم التوت بين شهري نيسان/ إبريل، وأيار/ مايو.
منحت سارة بيدينغتون الفيلم دفقة عاطفية وهي تواصل طريقها، نيابة عن "فاديا"، قبل أن تصل أخيراً وتُخبرها على الهاتف بأنها مباشرة إلى جانب التوتة المثمرة، قرب نقطة تفتيش أمنية لجيش الاحتلال، وباتت الشجرة رمزاً يتأكّد من جديد على رواية عائلة شُرّدت عن أرضها، ورثتها فاديا، مثلما ورثت بالحبر والورق، قرار حقّ العودة للاجئين الفلسطينيّين الذي أعيد تأكيده 135 مرّة منذ صدوره عام 1949.
استثمر الفيلم مواسم الهجرة، فكانت السماء فوق فلسطين مطرَّزة بأسراب الطيور مختلفة الأحجام، وعلى الأرض لوحات من الطبيعة التي كانت ملعب أرواح الغائبين.
أمّا في الضفة الغربية، فاختارت المخرجة مشهد العمّال محشورين في نقطة تفتيش عند الرابعة فجراً، كأنها علبة سردين، والذين لم يمرّوا من أي نقطة حديدية، أمامهم سجن كبير محدَّد بجدار اسمنتي عال تمرّ فوقه سماء تعبره الطيور المهاجرة.