"سوتين/ دي كونينغ": في البحث عن أثر الذهول تشكيلياً

26 سبتمبر 2021
مقطع من "منظر طبيعي بأسقف حمراء" لـ شايم سوتين، 1919 (من الأعمال المعروضة)
+ الخط -

عندما وصل شايم سوتين إلى باريس، حوالي 1912 (وهو عامٌ تقريبي يتّفق عليه أغلب مؤرّخي سيرته)، كان كمَن يخرج من شكلٍ من البؤسٍ ليدخل شكلاً آخر. لم يكن أيّ شيءٍ يوحي بأنّ الشاب الروسي، الذي لم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد (وُلد عام 1893 أو 94 قرب مينسك، عاصمة بيلاروسيا حالياً، وتوفي عام 1943 في باريس)، سيصبح واحداً من أبرز التشكيليين بين أبناء جيله، ليس الروس فحسب، بل الأوروبيين بشكل عام.

فسوتين الذي عاش طفولة صعبة على هامش الإمبراطورية الروسية، وجد نفسه في قيعان المجتمع الباريسي، وإن كان الحديث هنا عن قيعان ثقافية، من تشرُّدٍ وبوهيمية مع فنانين شبّان أو مكرّسين، قضى إلى جانبهم، في حيّ مونبارناس الذي كان "عاصمة" الحركات الفنّية والشعرية في ذلك الوقت، عشر سنوات من الفقر المدقع رغم موهبته، حيث كان ينام ليلةً في بيت هذا الفنان، وأخرى في بيت ذاك، وأحياناً في الشارع أو في مدخل مبنى.

سيعيش سوتين على هذه إلى حين اكتشافه في بدايات العشرينيات من القرن الماضي، على يد مقتني اللوحات الأميركي ألبرت بيرن، الذي سيشتري منه ثلاثين لوحةً على الأقل، بين بورتريه ومنظر طبيعي، ما سيُخرجه مؤقّتاً من بؤسه ويحوّله إلى فنان معروف وحتى مؤثّر في محيطه، خاصة حين راحت لوحاته تُعرَض في العاصمة الفرنسية وفي بلدان أُخرى، لا سيّما في الولايات المتّحدة، التي سيعرف فيها شهرةً ــ بفضل المقتني بيرن ــ بدءاً من ثلاثينيات القرن الماضي.

الجمع بينهما قد يفاجئ مَن ينظر إليهما من باب التصنيفات المدرسية

هكذا سيتمكن الفنان الهولندي، الواصل حديثاً إلى أميركا، ويلم دي كونينغ (1904 - 1997)، أن يكتشف أعمال سوتين خلال تكوينه الفني في مدينة نيويورك. لقاءٌ سيترك بصمة أساسية على دي كونينغ الذي سيُعلن لاحقاً أنه "ذُهول" بأسلوب سوتين في الرسم. هذه العلاقة بين الفنانين، أو بالأحرى العلاقة التي بناها دي كونينغ مع أعمال سوتين، هي موضوع معرض بعنوان "سوتين/ دي كونينغ: التشكيل مُجَسَّداً"، افتُتح أخيراً في متحف "لورانجري" في باريس، حيث يستمرّ حتى العاشر من كانون الثاني/يناير 2022.

يقدّم المعرض نحو 50 لوحة للفنانين، توزّع في صالاته بما يشكّل حواراً بين أعمالهما، مع التركيز على عدد من المحاور التي تبدو مشتركةً فيما بينهما: العلاقة ("المتوتّرة"، بحسب بيان المعرض) بين الشكل واللاشكل، ورسم اللحم البشري، والأسلوب الإيمائي لكلّ منهما. لكنّ المعرض، الذي يقدّم سوتين بوصفه فرنسياً، ودي كونينغ بوصفه أميركياً، لا يذكّر بأن تجربة المنفى والقطع مع الماضي عبر تقمّصه هوية اجتماعية ووطنية جديدة تشكّل أيضاً حلقة وصل بينهما، وإن كانت أقلّ مباشرةً في حضورهما ضمن أعمالهما منه في حياتهما.

ولعلّ المعرض يشكّل مفاجأةً للوهلة الأولى بالنسبة إلى كثيرين، خصوصاً وأن التصنيفات المدرسية لطالما وضعت دي كونينغ في خانة فناني الانطباعية التجريدية، التي وُلدت في الولايات المتّحدة ولطالما قُدّمت كمدرسة معزولة عن التأثيرات الأوروبية، من ناحية، وبين أعمال أكثر "واقعية" (وإن كانت تمزّق الواقع وتعيد صياغته بحسب رؤية الفنان)، أو على الأقل غير تجريدية، مثل أعمال سوتين، الذي لم يتخلَّ في لوحاته عن رسم الوجوه والمناظر الطبيعية والأشياء، من طاولات وصحون وولّاعات وقوارير نبيذ وآلات موسيقية.

آداب وفنون
التحديثات الحية
المساهمون