نادراً ما تُحيل الإنتاجات الدرامية العربية إلى الثقافة في موضوعاتها أو في انشغالات أبطالها وأحاديثهم، وكأن المجتمعات العربية التي تصوّرها تلك المسلسلات تبدأ وتنتهي مع قضايا رجال الأعمال والمجرمين والفاسدين، أو ربما قضايا العشّاق والعائلات الممزّقة، بينما لا وجود فيها للمثقّفين والمؤلّفين والمشتغلين في عالم الكتاب، أو لمبدعي الفنون البصرية. وعندما نقع، في حالاتٍ نادرة، على مثل هذه الإحالات في مسلسلٍ ما، فإنّنا نجد أنفسنا، في الغالب، أمام تسطيح لمعنى الثقافة ودورها، أو أمام لجوء لها من باب البهرجة والتظاهر، أو ربما نكون إزاء عدم فهم للثقافة وسخرية من دورها وفاعليها ــ وهي سخريةٌ غالباً ما لا تكون في محلّها.
قبل ثلاثة أيام، نشرت "مكتبة الإسكندرية" على مواقع التواصل الاجتماعي بياناً صحافياً تستنكر فيه "إهانةً للعاملين" فيها وردت في أحد مشاهد مسلسلٍ يحمل عنوان "أعمل إيه"، والذي تبثّه قناة "دي إم سي" ومنصّة "واتش إت" المصريّتين هذه الأيّام. وفي المشهد المذكور، تصف إحدى بطلات المسلسل ذلك الشابَّ الذي أحبّته، وتقول إن والدها رفض زواجها منه لأنه لا يريد لابنته، "بنت جابر بيه"، أن تتزوجّ مجرّد "موظّف كحيان" في "مكتبة الإسكندرية".
وأشارت المكتبة في بيانها إلى أنها "ترفض بشكل قاطع ما جاء في المشهد من إهانة لموظّفي المكتبة، وتؤكّد على أنّ كلّ العاملين فيها من المواطنين المصريين الشرفاء"، مذكّرةً بأنّ "المعيار الأصليّ للحُكم على البشر هو الكفاءة المهنية والإخلاص للوطن، وأن أيّ وصف يقلّل من شأن المهنة والوظيفة يخرج عن مبادئ المساواة التي يُقرّها الدستور".
النقاش الذي يستحق أن يُفتح يتجاوز مسألة الرقابة
ولم تتأخّر الشركة المنتجة للمسلسل في الاتصال بالمكتبة عبر مندوبها، وتقديم "كامل الاعتذار" عن "الإساءة غير المقصودة"، واعدةً بأنها "سوف تتّخذ كافّة الإجراءات اللازمة نحو حذف هذا المقطع وعدم عرضه"، وأنها ستسعى مستقبلاً إلى "تقديم مكتبة الإسكندرية بالشكل اللائق الذي يعطيها قدرها ومكانتها كمؤسسة رائدة لها وضعها المحلي والدوليّ"، كما ذكرت المكتبة في بيانٍ ثانٍ نشرته أيضاً على وسائل التواصل الاجتماعي.
وعلى الرغم من أهمّية القضية، ومن ضرورة الانتصار للمكتبة والعاملين فيها في أيّ حال، لأهمّيتها في بلد مثل مصر وفي الثقافة العربية بشكل عام، إلّا أنّ هذا النقاش قد يتحوّل سريعاً إلى نوع من الرقابة على الخيال والفكر، وهو ما يُعيد طرح السؤال/ المعضلة: هل للنصّ الأدبي أو الدرامي أو السينمائي الحقّ في قول ما يشاء عن الواقع والتاريخ وعن الفاعلين فيه؟ وإن لم يكن له الحقّ في ذلك تماماً، فأين تبدأ حرّية الكاتب ومخياله، وأين يتوقّفان؟
على أن النقاش الذي يستحقّ أن يُفتح قد يكون في مكان آخر غير مسألة الرقابة. ذلك أن عودةً إلى المشهد المذكور تكفي لتُعطي مثالاً ساطعاً عن سطحية فهم المسلسل ونصّه للثقافة، حيث تقول الشخصية نفسها، قبل ثوانٍ فقط من الحديث عن حبيبها "الكحيان"، إنها، في حبّها له، اكتشفت لأوّل مرّة أنّ هنالك في الواقع حبّاً "زيّ في السينما وروايات شكسبير". هي تقول ذلك حرفياً. وإذا أعدنا المشهد مرّة واثنتين وثلاثاً، فإننا سنسمع العبارة ذاتها: "روايات شكسبير".
لكنّنا نعرف جميعاً - أو ربما أغلبنا، كما يبدو - أنّ الشاعر والكاتب المسرحي الإنكليزي (1564 - 1616) لم يكتب يوماً ما روايةً، بل وضع نحو أربعين مسرحيةً، إلى جانب عشرات السوناتات والقصائد. ومن البديهيّ أيضاً أن نتوقّع ممّن يكتبون للدراما التلفزيونية، أو ممّن يكتبون نصوصاً مُعَدّة للتمثيل بشكل عام، أن يكونوا على قدرٍ ولو بسيط من المعرفة بتاريخ الفن الذي يمارسونه، خصوصاً أنّ شكسبير واحدٌ من أهمّ مَن كتبوا وأثّروا، خلال تاريخ البشرية جمعاء، في الفنّ الدرامي، هذا إن لم يكن الأهمّ على الإطلاق.
تصوُّر الدراما عن الثقافة لا علاقة له بهذه الأخيرة
وفي الواقع، يكفي تقويل إحدى الشخصيات كلاماً عن "رواياتٍ" لشكسبير ليُعطي ذلك فكرةً عن جهل القائمين على المسلسل "الدرامي" بالشاعر والكاتب المسرحي الإنكليزي، وهو ما يجعلنا نتساءل، في الوقت نفسه، إنْ كانوا على اطّلاع كافٍ بأجواء "مكتبة الإسكندرية"، وطريقة عمل الموظّفين فيها، وأوضاعهم المِهَنية، ناهيك عن معرفتهم بالكتب التي فيها، أو ربما بصالاتها.
ما يبدو مهمّاً في هذه الحادثة ليس إطارها الضيّق، المتعلّق بالمكتبة المصرية فحسب، بل أنها تعطي مثالاً عن ظاهرة شائعة في الدراما العربية: أي ظاهر مقاربة الثقافة من السطح، أو الخارج، حيث تُقَدَّم لنا الشخصيات المثقّفة بوصفها تلك التي تضع في مكتبات بيتها المتواضعة كتابين أو ثلاثة كتب لنزار قباني وباولو كويلو، وربما نسخاً من... "روايات" شكسبير. وهو ما يكفي، بحسب اعتقاد صانعي الدراما، ليصدّق المُشاهدون أنها شخصيات "مثقّفة". صورةٌ قد لا تُعطي فكرة واضحة عن الاشتغال الثقافي العربي، بل عن عالم الدراما العربية وحده.