يبدو البحث عن مسرحٍ جادّ، في غمرة الخفّة الاستهلاكية التي تطغى على الفعاليات الثقافية في بلد يُعاني أزمات الانهيار الاقتصادي كلبنان، كمن يبحث عن كائن مستحيل. فالجميع يريد أن يهرب من عمق المأساة ويستعين عليها بالملهاة لدرجة أنّ الأخيرة تسيّدت إلى حدّ مُملّ وباتت تفتقد الحسّ المَرِح. من هُنا، فإنّ عملاً مسرحيّاً مثل "دفاتر لميا"، الذي احتضنت عروضَه خشبة "مسرح مونو" في بيروت، بدءاً من الخميس الماضي وانتهى أول أمس الأحد، يبدو أنّه اختطّ طريقاً آخر بعيداً عن المجّانية.
تؤطّرُ مسألةُ التفاوُت الاجتماعي العملَ (كتبه: ديمتري ملكي، وأخرجه: شادي الهبر مؤسّس "مسرح شغل بيت" (2016)، واشترك في الأداء كلّ من: ريما الحلبي، وجميل الحلو، ومها أبو زيدان، وأنطوانيت الحلو)؛ وهي مسألة باتت من الكلاسيكيات التي يتحاشاها فنّانو الصف الأوّل، والمجاميع الإنتاجية المُلحَقة بهم والقائمة على تلميع البؤس وغضّ النظر عنه، والدعوة إلى كنسه تحت السجّادة.
لم تُقيّد في دفاترها أسماء مستغلّيها إنّما خطّت ما هو أبسط؛ اسمها
تذهبُ المسرحية إلى طرح قضيّتها ببُعدها التراجيدي المُركّب، فالفقر والتهميش لا يحتاجان حلولاً على طريقة "الأبطال الخارقين"، بقدر ما يحتاجان قلباً إنسانياً شفّ عنه الوجه الهادئ للممثّلة ريما الحلبي التي لعبت دور بطلة العمل "لميا". وهذه الأخيرة ليست سوى امرأة ريفيّة كادحة قضت شطرَ حياتِها بالعمل المنزلي في المدينة منذ كان عمرها 13 عاماً، وقد أسفرت تلك المدينة عن وجه متوحّش هو في حقيقة الأمر وجهُ "مخدوميها" من أرباب المال.
وإذا كانت التراجيديا قد غلّفت مضامين العمل، فإنّه بأبعاده الفنّية لم يبتعد عن ذلك، فالبطلة لا تُستحضَر أساساً إلّا من خلال تقنية الاعتراف أو التذكّر، هي لا تتحرّك بالفعل على خشبة المسرح، إنّما هو شبحُها القادم من الماضي، لأنّها في الواقع قد ماتت منذ زمن، وما عودتُها إلّا صدمة في التعبير عمّا جرى، وأسَف على مصير نراه يُكبّل الكثير من البائسين ولا نستطيع تغييره. فهي تتجسّد لابن أخيها "شادي" (لعب دوره جمال الحلبي)، لا لتقصّ سيرة شخصية فحسب، بل لتورّط المشاهدين في تاريخ الحرمان.
أمّا "الدفاتر" فهي الاستعارة الأكثر إلغازاً وشفافية في آن، حيثُ تشدّ العمل إلى ذروتِه النهائية، فأيّ شيء يمكنُ لامرأة أُمِّية أن تكتبَه بدفاترها؟ وهل في هذا إشارة إلى ضرورة الوعي في مواجهة البؤس بوصفه ترتيباً اجتماعياً مُدبّراً؟ كلُّ هذا محتملٌ طبعاً، لكنّ المفارقة في الدفاتر أنّ صاحبتها لم تُقيّد فيها أسماء جلّاديها؛ مثل والدها الذي أرسلها إلى العمل مبكّراً، والرجل الذي أحبّته ولكنّ الحربَ فرّقت بينهما. هو شيءٌ وحيد تمكّنت منه بالفعل، وأسعفها فيه بعض مهارة في الكتابة، بالتأكيد لم تمحُ أمّيتها بالمطلق إنّما مكّنتها من أن تخطّ اسمها البسيط؛ لميا.
يُشار إلى أنّ العمل سيُقدَّم في عرض إضافي عند السابعة والنصف مساء الخامس والعشرين من حزيران/ يونيو الجاري.