رواية "جيم" للجزائرية سارة النمس، الصادرة عن "دار الآداب"، محيّرة، بل هي حائرة. إذ إنّها لا تلبث أن ترمي القارئ في الورطة التي وقعت هي فيها، من دون أن تُخرجه منها، بل تدعها تطبق عليه، بحيث لا نعرف أيّة خاتمة للرواية سوى تلك الحيرة التي تنتهي إليها.
الأسماء التي تطلقها الرواية على بطليها، أقرب إلى أن تكون أسئلةً أكثر منها أسماء: "جيم" للمرأة و"لمين" للرجل. ثم إنّ الرواية الغنية بالتفاصيل، ولا سيّما تلك الجسدية الجنسية، لا تقع ولا تحدث في حينها، وإنّما هي ما يرويه البطلان، أحدهما للآخر، في رحلة قطار من وهران إلى تمنراست، وبفضل صدفة هي عثور لمين على كرّاس سقط من جيم ووقع أمامه. لولا هذه المصادفة لما حصل اللقاء الذي، رغم أنّه يبدأ جافّاً، لا يلبث أن ينقلب بسرعة إلى تذاكُر كلٍّ لسيرته الخاصة.
سيرتان عامرتان بالذنوب؛ أسهمَ لمين، من حيث لا يدري، في مقتل أخويه في حادث سيّارة كان يقودها، وفي انتحار صديقته بعدما ملّها، وفي موت أمّه بعدما استدرجها لتعطيه المال كي يمنحه لعشيقته التي أنفقته على عملية تجميل، حيث إنّ الأم نامت على مرضها الذي قتلها. كمّية من المَقاتِل لا نستغربها في الرواية، التي رغم أنّها ليست أكثر من لقاء مصادفة واعترافات، لكنّها تخفي درجة عالية من القسوة والسادية والجريمة والذنوب المعلنة والمضمرة. العنف والقساوة هما سرّ رواية وما وراءها، حيث إنّهما معاً الروايةُ نفسها، إنّهما الرواية الباطنة، لكنِ الحقيقية، حيث إن ما يعوم فوقهما من الأحداث، لا يبدو أكثر من خفاء وغطاء وظاهر لهما فحسب.
القسوة والسّادية هما النصّ الباطني والحقيقيّ للرواية
نحن في البداية نلتقي بـ لمين وهو كما يعرّف نفسه مجرّد شخص عادي، بل أقلّ، لم ينجح في حياته ولا في دراسته ولا في مهنته، بل هو في طريقه إلى تمنراست كمَن ينفي نفسه، ويرحل إلى طرف العالم وإلى عزلته الكاملة. لا نعرف في البداية ما الذي حمل جيم، العائدة من فرنسا، على هذه الرحلة، وسيبقى ذلك من أسرارها وأسرار الرواية، الرواية التي جيم لغزُها، بل هي لغزٌ يزداد انغلاقاً واضطراباً كلّما تقدمت الرواية وكلما تكشّفت. والرواية في "جيم" هي باستمرار تذاكُر أو مراجعة لمذكّراتٍ مضت، وما يبقى هو استجلاؤها والتعقيب عليها واستيضاحها. ذلك لا يحصل، إذ تبقى سيرة جيم وماضيها مقفلَيْن مغلقين، محافظين على سرّهما.
سيرة جيم هي بالدرجة الأولى جنسٌ بحت. جيم التي تشبه، إلى حدّ التطابق، أمّها الميتة التي فَجع موتها أباها الذي ربّاها بعد رحيل زوجته، وما إنْ بلغت الصِّبا حتى بدأ يراودها ويتحرّش بها. الفتاة لا تنكر أنها لم تصدّه، بل لا تنكر أنّها استمتعت بعلاقتها به، إلى أن صحت على ما في هذه العلاقة من انحراف. صادقت، لذلك، شابّاً لا يلبث الأب أن يعثر عليها معه، فيحتدّ ويكاد يقتل الشاب. عندئذ تعزم الفتاة على قتله. يصادق الأبُ امرأةً أخرى، لكنّ الفتاة مع ذلك تقتله؛ حدثٌ لا نجد وصفاً له أو سرداً عنه وكأنّه لم يحدث.
قصّة جيم لا تنتهي هنا، بل لعلّ هذا ليس الرواية الحقيقية. دفتر المذكّرات الذي يعثر عليه لمين في محفظة جيم يكاد يروي حكاية أخرى. المذكّرات هذه المرّة للأب، وهي روايته لعلاقته بجيم. نفهم من مذكّرات الأب أن شَبَه جيم الحرفي بأمها كان تمهيداً لتحسب نفسها، طوال الوقت، أمَّها. مذكّرات الأب، في موضع منها، تقول إن جيم توفّيت وإنّ الأم بقيت، إلّا أنّ هذا الخلط بين الأم والابنة، بحسب المذكّرات، تقوم به الابنة التي تتحرّش بالأب وتتعرّض له في فراشه باعتبارها زوجته، ما يجرّ الأب في أوقاتِ ثمله إلى أن يضيّع الفارق.
هنا لا تقوم الرواية على زنا المحارم فحسب، بل إنّ في تضييع البنت ما بينها وبين الأم تضييعاً تجرّ إليه الأب. هكذا نصل إلى التحليل النفسي، نصل مع البنت والأب إلى استذكار الفصام. البنت، بحسب مذكّرات الأب، فصامية، والأب، بحسب رواية الابنة، فصامي هو الآخر. مع ذلك، لا تتوقّف الرواية كثيراً عند التحليل النفسي، ولا تستطرد في موضوع الفصام، بل إن أكثر ما تنصرف إليه هو زنا المحارم، الذي تتناوله ليس بإسهاب فحسب، ولكن باسترسال ووصف حرفيّ.
الرواية - الواردة في القائمة الطويلة لـ"جائزة البوكر" (2021) - هي هكذا سردٌ جنسي، بل تخييلٌ جنسيّ عامر بالانتهاك والسادية والفحش، إذ إنها، بهذا الشكل، رواية الانحراف الجنسي وزنا المحارم. لكنّ الرواية وهي تركّز على الشيزوفرينيا وتسمّيها بالحرف، تكاد تغرق هي نفسها في هذا الفصام، بحيث تكون، بحدّ ذاتها، رواية فصامية. ما بين الروايتين، رواية الابنة ورواية الأب، من افتراقٍ ومن تضاد بسبب هذه الفصامية ما يجعل الروايتين تفترقان فصامياً. ما يبدو هنا هو مرض الأب ومرض الابنة، والروايتان معاً هما هذيان ذلك الفصام الذي يتكلّم هنا وهناك.
* شاعر وروائي من لبنان