ليست الأوبئة جديدة على البشرية، ولولا الخبرة التراكمية في معارف الطب والتنظيمات الاجتماعية، لكانت آثارها اليوم أكثر حدة مما نراه مع جائحة كورونا.
لكن استثمار هذه الخبرات ليس دائماً على أحسن وجه، حيث يوجد الكثير من العناصر المنسيّة في تاريخ مواجهة الشعوب للأوبئة، وهو ما بيّنه المؤرخ التونسي محمد حسن في محاضرة بعنوان "تدبير أطبّاء الأندلس لمسألة الطاعون"، ألقاها يوم الخميس الماضي في "المجمع التونسي للآداب والفنون والعلوم - بيت الحكمة" في قرطاج.
يعود حسن إلى القرن الثامن الهجري/ الرابع عشر الميلادي، ليتابع كيف تصدّى علماء تلك الفترة للطاعون الذي ضرب منطقة البحر المتوسط، آتياً هو الآخر، مثل كورونا، من الصين.
يشير المحاضر في بداية كلمته إلى أن التصدي للوباء لم يكن مهمة الأطباء وحدهم، فإضافة إلى محاولاتهم العلمية في فهم المرض وكيفية علاجه، كان للفقهاء دور توزّع بين عدة استراتيجيات لتنظيم الحياة الاجتماعية وفق رؤية تراوح بين الاستسلام للقدر وترتيب مسائل الانتقال من مكان إلى آخر، تفادياً للأماكن الموبوءة.
يلفت حسن إلى أن تفسيرات الطاعون كانت متباينة، فالبعض كان يقول بالعوامل الغيبيّة، ولكن أغلب الأطبّاء فسروا ظهوره بحسب نظريّة أبقراط بفساد الأهوئة والمياه والأطعمة، وتساعد الرّيح على سرعة انتشاره.
وانطلاقاً من هذه الرؤية العلمية، يذكر حسن أن ابن الخطيب قد نجح في إيجاد وسائل ناجعة للاحتراز من العدوى، مشيراً إلى أنه إذا لم يتوصّل إلى صياغة نظريّة مكتملة في العدوى، فإنّ مقاربته التجريبيّة للمرض قد برهنت عن دقّة ملاحظاته التي صاغها في رسالة تعتبر نموذجاً في تجديد الطب الوقائي. ودلّل على وجود أسباب بشريّة للطاعون، مبيّناً أنّها تتأثّر بمدى الاستعداد والتهيّؤ الطّبيعي لقبوله، أو العكس. وهو ما رفضه فقهاء المالكيّة الذين اعتبروا المرض من وخز الجان وامتحاناً إلهيّاً.
بشكل عام، يرى حسن أنه على عكس المجتمعات الأخرى التي واجهت الطاعون، كرّس الأطبّاء الأندلسيون الاتجاه العلمي بالاستناد إلى التجربة والاستقراء، ويؤكّد أنهم لم يقتصروا على تكرار ما ورد في كتب حكماء الإغريق القدامى، مثلما ما هو الشّأن بالنّسبة إلى الأطبّاء البيزنطيين، بل اعتمدوا إلى حدّ كبير على المعاينة والتّجريب، ما أدّى إلى التوصّل إلى معطيات علميّة دقيقة، يقول عنها حسن إنها "تفاجئنا بدقتها"، لكن كثيراً منها لم يتخطّ حواجز المعرفة في العصر الوسيط.